من كتاب ومرت السنوات على عجالة (2)
نبيل يونس دمان
في عام 1957 أيضاً جاء والدي من مشروع سد دوكان الذي كان يعمل فيه نجاراً، وقد جلب لي علبة خشبية اسطوانية( مخمرتا) معبئة بحلاوة موصلية وكذلك مبلغ لا بأس به من الفليسات المعدنية الصفراء اللامعة، دار حولي خالي عزيز وخدعني كونه اكبر سناً مني حيث فرض علي سباق رمي الاحجار لأبعد ما يكون، وفي كل مرة يقول غلبتك، ويأخذ مني بعض تلك الفليسات حتى أفلست!! وذهبت ابكي الى جدتي فلحقت به وأعادتها وهي تردد في مرح وطيبة ذلك الزمان” عاواله زقّانة» .
اتذكر مرة عندما زارنا ابن خالتنا بهنام جهوري في يوم قارص البرد، سأل عمي حبيب: لماذا لا تعمل، فقال له لم أعثر على عمل، فأوصى بفطنة صبيانية، بأن يأخذ معه محراث خشبي( عدّي) يجرّها اثنان من الفئران ويذهب لحرث الحقل( بذانه) فضحك الجميع، ثم اخرج القشرة الجامدة من ماء الحِب، وهي على شكل صينية جليدية، ولحقته الى خربة مجاورة ووضعها بتأني على حجر مستوي، وكلفني بجمع احجار صغيرة، وصار يرصها بإنتظام على تلك الصينية البلورية وعلى شكل دوائر منتظمة، وهو يردد بانه سيصنع لي غربالاً( سراده) وصارت الاحجار تلك تنغمس في الجليد، وتترك خرماً وما اجمل منظر( السرادة) الذي صار يلوح، نادتني امي لشيء ما، فذهبت وعند عودتي لم ارى بهنام، ورأيت ذلك المِسرَد الجميل محطماً، فتأسفت.
عندما يولد الاطفال في تلك الفترة كنت اسأل وكذا أترابي سؤالا ساذجاً بريئاً” من أين ياتي الوليد” فيقال ان القابلة او الجدة تأتي به من بين الأشواك في الغابة!! .
في محلة اودو مجلس شيوخ شهير يتألف من كبار السن يتخذون من ارضيته في القمطار مجلسهم وعلى طريق كنيسة مار كوركيس، ويبدأوا وينهوا يومهم في إطلاق النعوت والاسماء المثيرة على المارة وبشكل متقن وبارع مما حدى للبعض بتغيير مساره خوفاً من تعليقاتهم، اتذكر جلاس ذلك المكان: اورو حميكا، نونو شاجا، كوريال اودو، ياقو شابيو، عيسى حميكا، كوما بهاري، رشو شاجا، چاكا حنونا، توما قاتي( الأعمى) ، داقو ككحنو، ... وهناك مجلس آخر في مكان أعلى يفترش صخوراً وهم: چعو شاجا، ياقو قيا، منصور حنونا، موسى طعان، عيسى دمان، سعدو قيا، ... ومجلس آخر امام بيتنا ويجلس فيه: دنو ككميخا، أيليا دمان، رحيم وهرمز دمان، الياس دمان، اورو دمان، والمجلس الاخير في القمطار كان غالبا ما يلعب رواده لعبة( الدامة) او الورق( سكمبيل او كبوشي).
ساعة يدوية
كان نونو شاجا مشهورا بمعرفة الوقت وفي ذلك الزمان لا تتوفر الساعة اليدوية او غيرها، ومن خلال تحديقه في الشمس رغم ضعف بصره في الشيخوخة، كان يعطي تقديرا صائبا بالقول: سيحل وقت الرمش( صلاة العصر) او سيطرق الناقوس الان وهكذا.
في طريق الكنيسة كانت تسكن بيتا صغيرا امراة عجوز اسمها( وردكي مدالو) كانت تشد منديلاً ملوناً على رأسها ومن صفاتها جمع الاوراق من الزقاق، كان الصغار يساعدنها في تلك المهمة فتجمعهم في حوض فخاري متروك، ولم نعرف سر جمعها تلك القصاصات حتى يومنا هذا!!. في اوقات الظهر خصوصا ايام الاحاد كانت ترجع كوزي مدالو وزوجها كوما بهاري وبيدهم اناء سفري خفيف ويمروا وسط مجلس محلة اودو في طريقهم الى البيت هنا ترفع كوزي صوتها وكأنها تخاطب نفسها” ديخ كاو كلّيكي.....” اي كيف يحصل ذلك، وانا ارفض الكبة ووارينة( زوجة الياس أفندي) تصر على أخذها فاضطررت، الناس في المجلس تتذمر في داخلها وهي تشم رائحة الكبة التي ربما لم تذقها لفترة طويلة بسبب فقر حال الناس آنذاك من خمسينات القرن الماضي، ولسان حالهم القول” نحن لم نسألها ماذا تحمل في إنائها السفري، فلماذا تزعجنا؟ « .
كان خالي يونس قد دخل السيمنير( معهد ديني) ليصبح قسيسا في المستقبل وفي اول صيف جاء الى القوش وهو يرتدي زي خاص عبارة عن قميص طويل( أشبه بالدشداشة) ذو مربعات صغيرة ومعه أصحابه الدارسين معه، وقد كان أصغرهم حجماً وسمته جدتي تسمية( پشكه) اما الاقدم منه فكانوا يرتدون الثوب الاسود ومنهم عرفت حبيب حنا بدي، أخيرا بعد ثورة تموز بمدة والمد الذي أحدثته، ترك يونس دراسته الدينية وعاد الى القوش، وكانت المناسبة كما أذكر عند زواج خالي بولص عام 1959. في تلك السنة وخالي يونس تلميذا في السيمنير( إعداد القسس) بالموصل وردني انه كان يودع احد أقربائه في محطة قطار الموصل ليتوجه الى بغداد، اعترضه صبية مشاكين وخطفوا غطاء رأسه( كلوته) الخاص بتلميذ الكهنوت وكلما حاول إستردادها من يد احدهم حتى قذفها الى صاحبه الثاني ثم الثالث وصاروا يلعبون لعبة قذرة معه، فوقف في حيرة وحزن وغطاء رأسه بأيديهم، ووقفوا يستهزؤون قائلين” هذا القس ما ينمَس، يزرع فجل يطلع خَس” فقال المسافر الى بغداد ليونس اتركهم، هؤلاء لايخجلون ولا يخافون، فتركهم ومضى بدون غطاء الرأس.
هناك أشياء يجب ان تذكر، منها في يوم من أيام البيت القديم رجعت من ساحة اللعب مع اصدقائي وانا أتضور جوعاً، فسألت في الباب عن طبخة اليوم، فاجابت امي بانها طبخت دجاج مع الرز، ومن شدة فرحي أقبلت بسرعة الى الجدر الذي فوق الموقد الخشبي، وطبعت قبلة صغيرة على ذلك الجدر المعدني فاحترقت شفتاي، وصرت أصرخ من الالم فيما الأسرة غمرها ضحكٌ متواصل من تصرفي الصبياني الأهوج!!. كان والدي يدللني ويناديني بتحبب” نبي كورا” نسبة الى مام نبي ابو كريم من قرية پيرموس خلف الجبل ويضيف قائلاً” غزيلخ غزيلخ كو ورزا كد أريالخ عرنوّا، ثيلَ دأرقا، ميري غبَقلا، وغبِقالُخ! وبثردِخ معُلقالن ب( قربُس درشوانا) رش خمارا وثيلن لبيثا، خزيلُخ خزيلخ، وانا اقول بفرح غامر “ أي بابا”. ومعناها هل تذكر في مزرعة البطيخ عندما مسكت الارنب بيديك وهي تحاول الإفلات وانا اقول امسكها جيدا فتقول مسكتها، ثم علقناها في مقدمة بردع الحمار ورجعنا الى البيت.
سطح عال
كان أول مذياع( راديو) يدخل بيتنا عام 1956 وقد اشتراه والدي بمبلغ (16) ديناراً وأشترى أيضاً بطارية على شكل متوازي مستطيلات بمبلغ( 600) فلساً ثم نصب الوالد الهوائي فوق سطحنا العالي، وكان موضع تباهي لأهل البيت وسط إعجاب الجيران، فصرنا نسمع الأخبار والاغاني وسط ندرة شديدة لامتلاك الناس لذلك الجهاز السحري الذي يملأ حياة الاسرة بالتسلية وخصوصاً في ذلك الوقت كان التوجه على أشده في سماع الاغاني الكردية من مطربين مشهورين مثل: محمد عارف، نسري شيروان، مريم خان، حسو، وغيرهم.
اتذكر عندما حدثت ثورة 14 تموز 1958 كان الراديو لا يعمل بسبب نفاذ بطاريته، مما حدى بنا الى شراء بطارية جديدة لنتابع أخبار الثورة الصاخبة في تلك الفترة من تاريخ العراق.
وعلى ذكر محمد عارف جزراوي، كان المرحوم متيكا زورا عوصجي صاحب مقهى شهير في القوش في اربعينات وخمسينات وحتى ستينات القرن الماضي يرتبط باشد اواصر الصداقة مع محمد عارف فيكون على الدوام في ضيافته، وفي ليالي الصيف يسهرون مع الاصدقاء فوق سطح منزله وتنساب الموسيقى الجميلة والكلمات قوية النبرة عميقة المعنى باللغة الكردية التي كان غالبية اهالي القوش يجيدونها انذاك ويتذوقون كلماتها، كانت غالبية البيوت تخلو من اجهزة الطرب من راديو ومسجلات ولا وجود للتلفزيون فيسود الهدوء ويسترقي الناس السمع الى المغني المحبوب محمد عارف فتغمر ظلمة لياليهم الا من اشعة القمر( لا كهرباء انذاك) الفرحة والبهجة. كان والدي ايضا ولا يزال شديد الاعجاب بمحمد عارف واحببت الغناء الكردي عن طريق تسجيلات محمد عارف وغيره في بيتنا قبل وصول الأشرطة بل على شكل بكرات كبيرة نسبيا، وعندما زرت بغداد لاول مرة عام 1963 كان كرامافون ابن عمي داود ايليا دمان باقراصه الانيقة والوانها المختلفة لأغاني محمد عارف ونسرين شروان ومريم خان وكويس اغا وعيسى برواري يصدح باغانيهم في وسط بغداد.
كلما ادخل دهوك في زيارتي للوطن أمر بجانب قاعة اسمتها حكومة الاقليم ب( قاعة محمد عارف) وامامها تمثال نصفي له. ان محمد عارف خالد باغانيه ولم يمت ابدا.
مرة تضاربت مع طفل اسمه ابلحد بيبو فلحقت بي والدته وأطلقت صرخة في اذني وازاء ذلك الصوت المرعب وخوفي منها، تمرضت لفترة وربما لذلك السبب تعرضت اذني الى اصابة مبكرة بثقل السمع لا زلت اعاني منه، في صيف عام 1960 أخذني عمي كامل الى طبيب ألماني في الموصل واعطاني ادوية عبارة عن قطارة سائل اصفر للأذن وسائل احمر للأنف، فكان الثاني يتعبني كثيراً. أتذكر ايضا كيف كانت جدتي شمي تأخذني الى الموصل وفي بيت الخالة وردة صادق دمان التي كانت تطبخ لنا أكلة القيسي وكانت تعجبني كثيراً، ومرة اخذتني الى الطبيب اسماعيل حاوا حيث يعمل عنده العم الياس خوشو، وعندما اتخوف وأتردد من فحص الطبيب خصوصا من زرق الإبرة، فكان يقول مشجعاً” لماذا الخوف انت من القوش والألقوشيين سباع” فأستعيد اتزاني وأتحمل الألم المؤقت.
في صيف عام 1958 انتقل سكننا مؤقتا الى بيت ياقو ابونا في محلى التحتاني، وصرنا على مقربة من مراحل بناء بيتنا الجديد، الذي اكتمل في خريف ذلك العام، وقد استقبلنا بشارة الثورة 14 تموز التي حملت الافراح لبيوت العراقيين، والبشرى الثانية كانت نجاح عمي من الثانوية وهذا يعني الكثير حيث سيوظف معلماً، وتلك درجة مهمة ومرفهة في ذلك الزمان، واذكر كيف حضنه والدي عند باب بيت عمي حبيب وهو يقول” مبروك كمالو! « .
قضيت سنتين في مدرسة خاصة بكنيسة مار كوركيس( مدرسَّه دْ زورِه) علمنا فيها الشماس هرمز كادو مبادئ التربية المسيحية، آداب الطريق، الصلاة، الاناشيد الكنسية، كان معلمنا يعطي دروسه في غرفة كبيرة نسبياً لها شباك يطل على ايوان مفتوح الى حوش محاط بجدران عالية، كانت ارضية الصف مفروشة بحصران مصنوعة على الاغلب في قرية باطنايا. عندما يخرج الاطفال في استراحة قصيرة الى الساحة تتحول اصواتهم الى ضجيج كأنه ازيز النحل، بصيحاتهم بحركاتهم وحتى عراكاتهم. لم تكن في المدرسة مرافق صحية، لذلك كان احدهم يصطحب الاطفال الى وادي قريب اسمه( عين زقيا) لذلك الغرض. كان واحدنا يلبس قميص طويل وفي وسطه حزام معلق فيه قلة( شَرْبَنتا) ماء صغيرة وقدح مصنوع من الالمنوم( فافون) وغالبا ما كان مستخدمي مدرسة الاولى الابتدائية المجاورة يأتون بدست مملوء بالحليب الحار ليوزع لنا، لا زلت اتذكر موزعي الحليب كل من( حنا عازو، عيسى ججو تومكا)، وقد حاولت مرة ان اجلب كميه منه الى البيت بناء على طلب زوجة عمي ودي هومو لكني صرت اجرع من ذلك الكأس جرعات قليلة في الطريق لأصل الى باب الحوش وانادي ودي لاستلام الحليب، وحين تأخرها قليلاً جرعت الكأس حتى النهاية، وظل هذا الحادث موضع تندر لسنين. واذكر عددا من الأقلام قصيرة مبراة من طرف او من طرفين، اهداها لي الفراش حنا عازو. عندما يشرف الدرس الاخير على الانتهاء يطلب منا الشماس هرمز كادو ان نضم ايدينا الى صدورنا( قطارا دأيداثا) حتى الوصول الى البيت. وما ان نغادر مدرسة الصغار حتى نبدأ من تلقاء انفسنا بتقبيل احجار تشكل بنيان حائط الكنيسة المطل على ساحة مار ميخا، كانت بين تلك الاحجار شقوق واخاديد بفعل الطبيعة، فكنا كلما نعثر على قطعة خبز على الارض نرفعها ونضعها في تلك الشقوق، وعادة اخرى كانت سائدة، فما ان يسقط سن حليب( كاكه دْ خِليَه) احدهم، حتى يهرع الى الجدار المذكور ليركنه في تلك الشقوق، ولم اكن انا استثناء.