(طبق الأصل ) لمؤيّد نعمة في ذكرى رحيله 19
460 رسماً بالأسود والأبيض لأربع مراحل فنية
علي ابراهيم الدليمي
في الذكرى التاسعة عشر لرحيله، صدر عن منشورات أحمد المالكي للنشر والتوزيع في بغداد، كتاباً بطباعة أنيقة وراقية، وبورق آرت، قياس 17× 24سم، عن أعمال الفنان الراحل مؤيد نعمة، بعنوان «طبق الأصل»، الذي إحتوى على أكثر من 460 رسماً كاريكاتيرياً، الفنية، منذ بداية السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وصولا إلى الفترات الذهبية بالنسبة للفنان مؤيد ، وهي منذ 2003، حتى سنة رحيله في العام 2005. وهي بعض من رسوماته التي نشرها في الصحافة العراقية، علماً أن هذا الإصدار هو الجزء الأول من رسومات نعمة التي ستصدر عنه أجزاء أخرى تباعاً. وفيها نلمس المراحل التي مر بها مؤيد نعمة، كأساليب فنية متنوعة، وكتوثيق للموضوعات التي كان يعيشها المجتمع من جميع النواحي السياسية والإجتماعية والثقافية..
ونوه الناشر الفنان أحمد المالكي: «لا يختلف اي متذوق للفن على عبقرية الفنان العراقي الكبير مؤيد نعمة ورؤيته الفلسفية والمستقبلية للأحداث آنذاك، لهذا السبب نرى أعماله تعيد تاريخها حتى بعد رحيله، ولهذا اليوم وتحت ما أطلق عليه هو من عنوان «طبق الأصل» انه الخلود الفني بلا شك الإبداع».
وجاءت فكرة، ودعم الكتاب وعنوانه من قبل زوجته السيدة مها البياتي، التي طرحتها على الفنان الناشر أحمد المالكي، وكان مدى التعاون الكبير في تحضير الكتاب واختيار الرسوم بدقة لا سيما وأن أكثرها منشور في صحف ومجلات قديمة وبحاجة إلى تصفية فنية لغرض المحافظة على رونقها وخطوطها.وأستذكرت الصحفية مها البياتي: «لم أكن اتصور ان اليوم الذي استطيع الكتابة فيه عن التجربة الفنية للحبيب مؤيد نعمة يأتي بعد رحيله الابدي..! فمنذ خطواته الاولى في السبعينيات أثبت حضوره بصفته متميزاً بإسلوبه الحديث المغاير للمألوف آنذاك فجاءت رسوماته مدهشة.. مؤثرة بأفكارها وعمقها وأبعادها ورموزها متجاوزاً التعليقات إلى حد ما مركزا على الفكرة وشخصياتها وتقديمها بإسلوبه الفني الذي تجاوز من خلاله الاضحاك إلى الكوميديا السوداء مقتربا من معاناة شعبه بكل ذكاء وحذر جاعلا المتلقي يشاركه التحليل من خلال وعيه وثقافته وبذلك أمن وسلم من الرقيب القاتل ..!
طبق الاصل.. الذي يحمل الكتاب عنوانها واحدة من أبرز الزوايا التي نشرها مؤيد نعمة بمجلة ألف باء في ثمانينيات القرن الماضي تزامنا مع زاوية أخرى إجتماعية بعنوان «نساء ورجال» سبقتهما زاوية حادة.. استطاع من خلال هذه الزوايا ان يطرح العديد من الافكار السياسية والاجتماعية التي كادت تؤدي بحياته لجرأتها وتشخيصها في الطرح حتى انها أغضبت بمباشرتها من خلال رسم الشخصية المعنية غضب بعض المتسيدين والمشهورين مع وضوح الحدث..!
وتواصل البياتي، ذكرياتها في الكتاب: إن إختيار اسم (طبق الأصل) ينطبق على شخصية مؤيد نعمة الذي منذ أن عرفته في العام 1970، وتأسيس أسرتنا في العام 1973، ولحين رحيله الأبدي في العام 2005، كان هو نفسه بمواقفه الاجتماعية والفنية والسياسية وإنتمائه الفكري اليساري إضافة لهدوئه المعهود وأناقته المعروفة وتواضعه وطيبته إذ لم تغيره المعاناة وشدتها التي أحاطت حياته المهنية كالغربة من أجل البحث عن الرزق في عمان هو وزملاؤه الفنانين والإعتقال والمراقبة والعوز، بل أضافت له قوة وإصرار في التواصل والتنوع في الإبداع ما بين رسم الكاريكاتير والخزف ورسوم الأطفال والكرافيك...
بداية المسيرة
في إحدى بيوتات محلة الحاج فتحي الشعبية، التي تقع وسط بغداد، كانت ولادته عام 1951، وكانت أول محطة طفولته العفوية الذي جسد فيها نعمة خطوطه على جدران بيوتها القديمة، ثم ليبهر معلميه في درس الرسم في مرحلة دراسته الابتدائية، ويتلقى منهم التشجيع والثناء. وفي مرحلة المتوسطة، تنتقل عائلته إلى منطقة الزعفرانية في ضواحي بغداد الغنية بالبساتين الكثيفة والمزارع المخضرة، التي أغرته بجمالها وألوانها، لينهل منها رسوماته الطبيعية.. فضلاً عن تعدد سفراته الشخصية أو العائلية للاماكن الطبيعية الاخرى المجاورة لبغداد، والمدن الآثارية، لينعكس ذلك في واقعياته المرسومة في دفتره المدرسي البسيط.
وقد زامن حبه للرسم ذلك، متابعة محتويات مكتبة والده الثقافية، الذي كان لوالده الفضل الكبير باختياره الكتب التي تتماشى مع ذهنيته العمرية وموهبته.
وتبدأ مطالعته في الصحف والمجلات، ليطالع رسومها وموضوعاتها، ويبدأ مزاولة رسم الكاريكتير.. وكانت دهشته عظيمة جداً، وهو يرى أحد رسوماته السياسية الساخرة منشورة على غلاف مجلة (المتفرج) الفكاهية عام 1967، وكان موضوع الرسم يمثل تمثال (الحرية) في أميركا، وقد حمل قنبلة نابالم بدلاً من مشعل الحرية، حيث كان مؤيد وقتذاك، طالباً في الصف الرابع الاعدادي، وكانت رغبة والده ان يكون طبيباً، إلأ أن ذلك الغلاف وهوايته المفرطة للفن ولرسم الكاريكاتير خصوصاً، كان سبباً مقنعاً وحتمياً لدخوله معهد الفنون الجميلة/ قسم الرسم (خريج عام 1971)، ليواصل بعد ذلك مسيرته الرحبة والشاقة في عالم الكاريكاتير. وفي عام 1969، دعي الفنان مؤيد ، ومجموعة من الفنانين الشباب للعمل في مجلة (مجلتي) للاطفال، ثم (المزمار) في بداية اصدارهما، وكانت هذه التجربة بالنسبة لمسيرته، جديدة ولذيذة، حيث لعبت دوراً مهماً وبارزاً في تطوير واظهار تجارب وأساليب فنية عديدة، قد طرقها الفنان مؤيد نعمة، ولتضيف له هذه الممارسة رصيداً كبيراً وواضحاً في عمله الصحفي المتنوع، ما بين رسم الافكار السياسية والاجتماعية الساخنة التي تطفو على سطح الساحة المحلية أو الدولية، وبين الولوج في عالم البراءة والطفولة، لينجز عشرات الاعمال الابداعية، ما بين سيناريوهات وكتيبات، التي تخص الاطفال، بل ليكون من أوائل أبرز المؤسسين الجادين لصحافة ورسوم الاطفال في العراق.يرى نعمة، في موضوع علاقة الكاريكاتير ورسوم الاطفال: رسام الكاريكاتير يجوز لا علاقة له برسوم الاطفال، ولكن عندنا في العراق، كل رسامي الكاريكاتير رسموا للاطفال، ولكن ليس كل رسامي الاطفال رسموا الكاريكاتير.. الكاريكاتير فن، والرسوم للاطفال فن، بل هو عالم خاص ورائع.. هذا الفن – الرسم للاطفال – تطور عندنا في العراق كثيراً وأصبح مدرسة تقودها دائرة ثقافة الاطفال. عام 1972، بدأ مؤيد نعمة يرسم لمجلة (ألف باء) بشكل اسبوعي ومتواصل، بالاضافة إلى رسومه للاطفال والصحافة اليومية، ومنها جريدة طريق الشعب، الذي انتمى لكادرها عام 1973، لحين توقفها عام 1979. وفي عام 1973، ساهم مع كل من الفنانين بسام فرج وأديب مكي، في رسم وتصميم أول فيلم كارتوني عراقي بعنوان (لعبة القدم الأمريكية) الذي أنتجته مؤسسة السينما والمسرح، ومن إخراج الفنان فكتور حداد، وقد حاز هذا الفيلم على الجائزة التقديرية في مهرجان أفلام فلسطين الثاني، الذي أقيم في بغداد. وكانت لمؤيد نعمة، أول مشاركة دولية له في مسابقة (بينالة كابروفو) البلغارية عام 1972، الذي أقيم تحت عنوان (العالم ما زال يحيا، لانه يضحك)، وقد حصد الجائزة الثالثة عام 1979، في نفس المسابقة، وعلى أثر ذلك أصبح للعراق جناح خاص في هذه المسابقة، مشاركة مع زميله الفنان بسام فرج، فضلاً عن مشاركاته الدولية العديدة في كوبا ويوغسلافيا وبلجيكا واليابان وتركيا...
شارك مع مجموعة من فناني الكاريكاتير في تأسيس أول تجمع (لرسامي الكاريكاتير العراقيين) الذين أقاموا معرضين عامي 1975و 1967، وقد ضم هذا التجمع كل من الفنانين (نزار سليم وبسام فرج ومؤيد نعمة وضياء الحجار وعبد الرحيم ياسر وموسى الخميسي).
لم يكتف فناننا مؤيد نعمة، بكل هذه النشاطات الفنية اليومية المتواصلة ليل نهار، بل راح يكمل مشواره (الدراسي/ العلمي) في دخوله أكاديمية الفنون الجميلة (بكالوريوس عام 1977)، ولكن هذه المرة أنتسب لقسم الخزف (السيراميك)، وكان لابد أن يطرق باب هذا الفن الجديد لمسيرته ليوظفه أيضاً لصالح فن الكاريكاتير.
فكان نعمة، أول فنان عراقي وعربي، يوظف الكاريكاتير في فن النحت الخزفي، وذلك لصعوبة تمازج هكذا ابداعان في عملية واحدة تقنياً، وقد شجعه في المضي قدماً بهذا الاتجاه هو الفنان إسماعيل تاح الترك، فقد جسد عدة تماثيل خزفية (بورتريت) لعدد من أساتذته في الاكاديمية أمثال: فائق حسن، وسعد شاكر، ومحمد غني حكمت، وكاظم حيدر، وفرج عبو.. وأخرون، كما له مشاركات دولية عديدة بهذا التخصص لاحقاً.
عام 1991، أستقرت رسومات مؤيد نعمة على الصفحة الاخيرة لجريدة الجمهورية بشكل يومي، حيث لاقت صدى واسعاً على الساحة الاعلامية والصحفية خارج العراق وداخله، فضلاً عن الرسومات الاخرى في مجلة (ألف باء) الاسبوعية، تحت عنوان (طبق الاصل) و (رجال ونساء)، وقد أتسمت جميع رسوماته باللمسة (السياسية / الاجتماعية) الممزوجة مع بعضها البعض، ان صح التعبير.
وفي عام 1991، أنتخب من قبل زملائه رسامي الصحف، لرئاسة جمعية الكاريكاتير في نقابة الصحفيين العراقيين.
وظل الفنان مؤيد نعمة، يتواصل دون كلل أو ملل مع ابداعه الكثيف والمستمر في فن الكاريكاتير، ورسوم الاطفال، وما بين تدريسه ورئاسته لقسم الخزف في معهد الفنون والحرف الشعبية، والنشر لصالح عدة صحف محلية يومية بعد الاحتلال عام 2003، لغاية توقف نبض قلبه دون إرادته.. لتطوى صفحة زاخرة بالابداع والتجدد الفني والرؤيوي، من صفحات مشهد انجازنا التشكيلي والاعلامي، نحن بأمس الحاجة اليه في ساحة المواجهة المصيرية التي نعيشها الآن.
هكذا.. رحل، مؤيد نعمة، الفنان والصديق والزميل والاستاذ، إلى الآجل المحتوم يوم 27/11/2005، لتسقط ورقة خضراء نضرة من شجرة الكاريكاتير العراقي والعربي الباسقة.