الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نحو تنظير جديد للأبداع في العالم العربي

بواسطة azzaman

نحو تنظير جديد للأبداع في العالم العربي

قاسم حسين صالح

 

 الابداع هو عملية عقلية عالية المستوى تتسم بطريقة جديدة في التفكير تؤدي الى نظريات اصيلة،او نتاجات او ابتكارات تحظى بالقيمة والاهمية،او حلول لمشكلات حياتية،يمتاز بها اشخاص يتصفون بالتفكير الراقي وسعة الخبرة تمكّنهم ان يضيفوا شيئا جديدا في ميدان تخصصهم يثير المتعة والدهشة ويساعد على ازدهار الحياة وتقدم المجتمع.

  ولقد انتبهت الدول الى ان تقدمها ما عاد يعتمد على القوة العسكرية بل على ما تمتلكه من عقول مبدعة. وكانت بداية هذه الانتباهة تعود الى اطلاق الاتحاد السوفياتي السابق سفينة فضائية في خمسينيات القرن الماضي ادهشت العالم وفاجئت امريكا..كيف ان «دولة العمال والفلاحين « تسبقها في غزو الفضاء!..ووجدت الخلل في نظامها التربوي فعملت على اصلاحه وبعثت بخبراء الى العالم الثالث يلتقطون العقول المبدعة ويأتون بها الى امريكا..لترعاها وتستثمرها، وكانت هذه العقول احد اهم اسباب تطورها وتقدمها.

 ما قالته مؤتمرات عالمية

  في تموز 2011 ، شاركنا في مؤتمر حول الموهبة والأبداع والتربية النوعية  عقده المركز الدولي للتطوير التربوي، ومقره في المانيا بالتعاون والتنسيق مع جامعة اسطنبول وعدد من المؤسسات الدولية تحدث فيه علماء من دول متقدمة: أميركا،كندا،بريطانيا،اليابان،السويد،ايطاليا..وأخرى آسيوية وأفريقية عبر (130) بحثا واكثر من عشرين محاضرة لمتحدثين عالميين بارزين (Keynote Speakers  ) محاور توزعت بين: التربية النوعية، الموهبة والابداع والقيادية،التعلم الالكتروني، بيئات التعلم الافتراضيه، التربية من اجل السلام، برامج الاعداد والتمكين، قضايا ومشكلات التعليم العالي، التوجهات المستقبلية في التربية والتعليم العالي،الابداع وما وراء المعرفة،الدوغماتية والقدرات العالية،والمعوقات الثقافية التي تواجه المبدعين..نقتطف منها  آراء ثلاثة باحثين:

في بحثه (الابداع..نوع واحد ام انواع) لفت الانتباه (دين سيمونتن) من جامعة كاليفورنيا الى ان الفكرة المأخوذة عن الابداع بأنه (ظاهرة متجانسة) تعرضت الى النقد بعد ان توصلت البحوث الحديثة الى ان الابعاد الرئيسة للابداع يمكن ترتيبها هرميا، من العلوم الى الفنون حيث الفيزياء في القمة تليها الكيمياء، البيولوجي..،علم النفس،علم الاجتماع..،واخيرا الفنون الشكلية Formal والفنون التعبيرية Expressive . واوضح أن الابداع في العلوم الصرفة يتصف بالموضوعية والمنطق والعدّ الرقمي والمنهجية، فيما يكون في الفنون ذاتيا»،حدسيا، انفعاليا، تباعديا، وغير مقيّد. وان خصائص المبدعين تختلف بحسب موقع المبدع في هرم الابداع، من الانفتاح الى الذهان في مجالات الفن والثقافة، وانهم يختلفون ايضا في خبراتهم التطورية بما فيها الخلفية الأسرية والتربية المدرسية والتدريب والمناخ الاجتماعي الحضاري.

·        في بحثه الموسوم (تطور المهارات التصويرية في الطفولة والمراهقة) اوضح (فولفانك شنوتز) من المانيا بأن التعليم والتعلم، كما التفكير وحل المشكلات، تستعمل اشكالا تصويرية متعددة، غير ان التفكير الابداعي يكون قائما على مرونة متبادلة بين المعارف المختلفة للقضايا التي نواجهها وما يقابلها من عمليات عقلية. وفي حين يلعب تعلم القراءة والكتابة دورا رئيسا في الأنظمة التربوية المعاصرة فأن استخدام: الصور، الخرائط،الرسوم البيانية، النقوش، في الموضوعات المعقدة وحلّ المشكلات لم يحظ باهتمام هذه الأنظمة. ودعا الباحث الى مغادرة طرائق التعليم التقليدية ،وقدم  تحليلا لأنواع الاشكال التصويرية وما يقابلها من عمليات ادراكية ومتطلبات معرفية لدى المتعلم من وجهة نظر العلم المعرفي وعلم النفس التطوري والتربوي.

وفي ورقته الموسومة (تأثير العلماء المتفوقين في فهم العالم) اشار (توماس كورنتز) من المانيا الى أن الأفكار الممتازة للعلماء المبدعين عبر التاريخ احدثت تغييرا في طرائق وصيغ تفكيرنا افضى الى التقدم الحضاري الذي نشهده ،وفرض علينا ضرورة تجاوز عاداتنا المعرفية والثقافية وطرائق تفكيرنا المتحجرة.ونبه الى دور التربية في احتضان الأطفال الموهوبين ورعايتهم علميا ونفسيا بخلق شخصيات منهم تتمتع بمواصفات المبدع.

  وفي(16 تشرين الثاني 2013) شاركنا بمؤتمر عقد في عمان-الاردن خاص بالموهوبين والمتفوقين..واقر توصيتين تقدمنا بهما:

الأولى:تشكيل لجنة من المؤتمر لانضاج مقترح بعنوان استراتيجية لتطوير الأبداع في وزارات التربية والتعليم العالي في العالم العربي منطلقلين من افتراض أن ازدياد المبدعين في العالم العربي يساعد على ازدهاره ويسهم باشاعة السلام في العالم.

والثانية: اصدار بيان بأسم المؤتمر يدعو لاتخاذ اجراءات عاجلة للحفاظ على العقول العربية  المبدعة،وتأمين عودة الأكاديميين والعلماء المهاجرين ليسهموا في بناء أوطانهم.

بيئات الأبداع

 أولا: الأسرة

 ان البيئة الأولى لنشوء الابداع هي الأسرة،وتحديدا في أساليب تنشئتها للأطفال،لما لها من علاقة بنمو القدرات الابداعية. فالدراسات العلمية وجدت علاقة إيجابية بين الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمده الوالدان ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم، وعلاقة عكسية بين الأسلوب التسلطي الذي يعتمدانه ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم. وأفادت بأن الطفل الذي يعيش في جو أسّري ينعم بالدفء، ،ويمنحه الوالدان الحرية والاستقلال وطرح الأفكار دونما خوف من نقد أو سخرية، فأنها تعمل على تنمية عمليات عقلية تؤدي به الى الابداع ،وبه يتوافر للطفل واحد من الشروط الأساسية لأن يكون مبدعا في المستقبل..فيما يشير واقع الحال العربي ،كما تشخصه الدراسات النفسية والاجتماعية،الى ان اساليب التنشئة الاسرية تقوم على العقاب الجسدي بالضرب والسجن والترهيب والتهديد والقمع النفسي بالازدراء والاحتقار والسخرية والتهكم،وان غالبية الأسّر العربية تفتقر الى اساليب التنشئة التي تساعد على نشوء ونمو الابداع.

المدرسة..البيئة الثانية

  تعدّ المدرسة والمناهج المصدر الثاني لنشوء الابداع وتنميته. ويشير الواقع العربي الى أن  الصفة الغالبة عليها هي افتقارها الكثير من مقومات الإبداع سواء في مناهجها أو طرائق تدريسها أو أنظمتها العامة ،وأنها لا تعمل على تحريض النشاط الإبداعي لدى الطالب،وان المعلم فيها ناقل معلومات ويخشى التحديات. بل ان التعليم في الأنظمة التربوية العربية من الابتدائية الى الجامعة،يقوم على التلقين وحشو الذاكرة الذي ينتج بالضرورة عقلا يأخذ بالأمور كما لو كانت مسلّمات دون أن يتحاور معها بفكر ناقد.وبهذا صاغ النظام التربوي العربي عقولا عودها على أن(تستقبل) لا على أن ( تحاور)..فضلا عن اننا لا نعمد الى تحديث مناهجنا بالسرعة التي يتطور بها العلم،التي يفصلنا عن التقدم في عدد من العلوم اكثر من ربع قرن!.

واذا كانت الأسرة والمدرسة غير حاضنتين للأبداع فأن المجتمعات العربية فيها من معوقات الابداع ما يميته او ينفيه او يخدّره ، من بينها:

الفهم الخاطئ للدين والميل للاتّباع ومقاومة الابتداع.

القيود المفروضة على حرية التعبير.

إهمال المواهب الفردية وجعل الفرد في خدمة المجتمع.

والجمود الفكري وقراءة السلف من دون تطوير أو إبداع.

  بل أن الثقافة العربية ايضا معيقة للإبداع..يكفي ان نشير الى انها تشيع بين الناس التشبث بالماضي والتغني بأمجاده وضعف الاهتمام بالقضايا الراهنة والمستقبلية، وتوجّيه النشء للتعايش مع مفاهيم الامتثال والتقليد والابتعاد عن المغامرة والاكتشاف والتجريب.

على ان اخطر طارد للأبداع هو السياسة..اليكم وقائع عنها:

العالم العربي ما يزال،من نصف قرن،ميدان حروب واضطرابات استنزفت موارد اقتصادية هائلة، نجم عنها أزمات نفسية واجتماعية وانشغال فكري في الأمور السياسية على حساب استثمار العقول الوطنية في الإبداع بالعلوم الإنسانية والابتكار بالعلوم التطبيقية.. وزادها الآن سوءا جرائم الأبادة الجماعية الوحشية التي ارتكبتها اسرائيل في غزة ولبنان.

الأنظمة السياسية في البلدان العربية لا تتمتع بالاستقرار،وغالبا ما توظف المنجز الإبداعي لخدمتها.ولهذا تعدّ البلدان العربية أكبر مصدّر للعقول المهاجرة.مثال ذلك لو أن الأطباء النفسيين العراقيين في بريطانيا قرروا العودة الى العراق لاختلت الخدمات الطبية فيها..فيما الإبداع يزدهر اذا عملت الدولة على توفير متطلبات نموه غير المشروطة بتوظيف المنجز الإبداعي لخدمة نظامها.

في العراق أودى العنف،في ثلاث سنوات(2004 – 2006) ،بحياة 185 أستاذا جامعيا،و73 طبيبا و140 من الملاكات الطبية،عدا المئات من محاولات القتل والخطف لآخرين من الطاقات العلمية المبدعة،اضطرت القسم الأكبر منهم الى الهجرة ( متابعة صحيفة،لغاية نيسان، 2006 ). فيما أشارت احصاءات اليونسكو(2010) الى مقتل 500 شخصية اكاديمية وعلمية وهجرة ثلاثة آلاف عالم وباحث واستاذ جامعي خارج العراق بعد 2003..بل وصل الحال الى اغتيال ثلاثين عراقيا في العشرة أيام الأخيرة من آذار/مارس 2011 بمدينة بغداد وحدها! أغلبها بأسلحة كاتمة للصوت بينهم أطباء وأساتذة ومهندسون.

ان النظام التعليمي في العالم العربي  يعمل على حشو رؤوس الطلبة بالمعلومات دون ان يعلمهم كيف يفكرون بها، ما يعني أننا لا نربي اجيالا، بل ننتج روبوتات بشرية مبرمجة على اعطاء الاجابات النمطية والسطحية في الامتحانات، ولكنها عاجزة عن حل ابسط المشكلات في الحياة الواقعية – العراق مثالا، مع انه كان مهد الحضارات وأرض العلماء والفلاسفة، تحول الى امة تعتمد على الحفظ والتلقين الذي يقتل الأبداع والأبتكار ويحولنا الى نسخ متخلفة ومكررة، وحوّل التعليم من سلاح لتحرير العقول الى اداة لتخديرها.

زد على ذلك ان العالم العربي ينفرد بأربع (كوارث):

الأولى..ان ما ينفق على التعليم ضئيل جدا بالقياس لما ينفق في شراء الأسلحة.فبحسب المركز الروسي لمبيعات الأسلحة،بلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية الى دول الخليج العربي فقط 123 مليار دولار ،فيما لم ينفق ربع هذا المبلغ على التعليم..وما تنفقه اسرائيل على البحث العلمي اضعاف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة.

والثانية:ان السياسة دفعت الدول العربية الى ان يكيد بعضها ضد البعض الآخر،واشغلتها بخلافاتها العقائدية،وصراعات الأخوة الأعداء على السلطة والثروة وسلوكياتها اللااخلاقية التي حولت الفساد من خزي الى شطارة..وأنموذجه العراق.

والثالثة :ان رياح التغيير التي هبت على العرب في يناير وفبراير 2011 كان يتوقع لها ان تفتح الباب واسعا لابداع عربي وديمقراطية وسلام..والنتيجة سارت الرياح بالاتجاه المعاكس..ولهذا كانت البيئة العربية طاردة للأبداع من الف سنة..ولن تكون حاضنة للأبداع الا بتطبيق الديمقراطية عمليا وتحقيق العدالة الاجتماعية.

اما الرابعة:ان العقل السياسي العربي مصاب بعلّتين:

الأولى: ان الحاكم العربي تتحكم به سيكولوجية احاطة نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب أن يسمعه..فيتحول مستشاروه الى وعاظ سلاطين ( يمدحون وينافقون ) ولا علاقة لهم بالأبداع.

والثانية: اوصلتنا متابعتنا لأحداث الأربعين سنة الأخيرة في العالم العربي الى ابتكار مصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي) خلاصته..ان المصاب به يرى في جماعته،طائفته، دولته..الجوانب الأيجابية ويغمض عينه عن سلبياتها،ويرى السلبيات في الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن سلبياتها، ويحمّلها ما يحصل من ازمات مع ان جماعته شريك فيها.وهذا الحول مصاب به الحاكم العربي والمواطن العربي ايضا..وعقل كهذا لا يمكن ان يكون مبدعا، ولن يدرك أن المبدعين هم الذين يغيرون العالم ومسار التاريخ أيضا.

 ان هذه الأدلة تشير الى ان البيئات العربية ما تزال طاردة للأبداع والمبدعين حتى تلك التي صارت تسمى انظمة ديمقراطية،بل ان مكانة المبدعين تراجعت في بعضها مقارنة بما كانت عليه في الأنظمة الدكتاتورية،لأن الذين استلموا الحكم اعتمدوا مبدأ الثقة والأقارب في اسناد المسؤوليات الكبرى وتجاهلوا الكفاءة والخبرة.

في ضوء ذلك نخلص الى توصيتين:

 الأولى:  تشكيل لجنة من مؤتمر (الموهبة والأبداع) لأنضاج اهم الأفكار الواردة في هذه الورقة وتقديمها الى وزارات التربية والتعليم العالي في الدول العربية.

الثانية: توعية الأجيال العربية بأهمية وأيجابيات الذكاء الأصطناعي بوصفه يمثل مرحلة متقدمة  من تطور التكنولوجيا الإبداعية لحلول المؤسسات ، ويفتح عالمًا جديدًا من الإبداع المرئي ويوفر مجموعة كبيرة من إمكانيات توفير الوقت وإثارة الخيال للأشخاص الذين يقومون بأعمال إبداعية،و يُلهم أفكارًا جديدة تتجاوز التفكير التقليدي بتوسيع آفاق العقل البشري.

الثالثة: لأن معظم التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات العربية..توضع على الرفوف،فأننا نوصي بتشكيل لجنة ممثلة للبلدان العربية تعمل على متابعة تنفيذ التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وتسمية الدولة والمؤسسة التي اخذت بها وتلك التي لم تأخذ بها، واقتراح ما تراه مناسبا لتفعيلها.

 شكرا لهيئة مؤتمر الموهبة والأبداع ،وتحية لكل المساهمين فيه ..مع خالص تمنياتنا بالموفقية.

  مقدم الى مؤتمر الموهبة والإبداع

دبي 11 - 13 نوفمبر 2024

 مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 


مشاهدات 180
الكاتب قاسم حسين صالح
أضيف 2024/11/16 - 12:30 AM
آخر تحديث 2024/11/21 - 4:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 260 الشهر 8964 الكلي 10052108
الوقت الآن
الخميس 2024/11/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير