أصوات من ذاكرة حروب دوريّة
رياض شابا
لم اتمنَّ ان يمتد بي الزمن حتى استرجع لحظة اردت توثيقها يوما في اجواء سلم اهلي دائم، فاضطر الى استذكارها الان في ظل حرب جديدة اجهل تسلسلها، واقعةٌ حصلت امامي قبل خمسة عقود، كانت تشكّل ومثيلاتها الشرارات الأولى لقيام مأساة مستمرة نجهل متى نهايتها..
يصلني صوت المذيعة اللبنانية مختنقاً بالعبرات والدخان، في نقلٍ حيٍّ على الهواء لليل بيروت المختنق اصلا بالظلام والخوف، متحدثة عن استمرار الخطوط الجوية الوطنية بنقل القادرين على الهروب الى اماكن اكثر امنا، غير ابِهَةٍ بهول الحِمَم التي تضرب السماء والارض بنيران من كل لون، وتزامنا مع استطلاع جوي معادٍ شبه مستمر ومنخفض غالبا، هي شجاعة لافتة ازاء عملية محفوفة بالمخاطر بالتاكيد!
اعادني المشهد الى نحو نصف قرن مضى، ربيع 1975 “نيسان” على الارجح، وصوت قبطان الطائرة التي اقلعت بنا للتو بعد ترانزيت افترض به ان يكون قصيرا لكنه امتد لساعات غير محسوبة، يخاطبنا بخجل، مُرَحِبّا، ثم معتذرا للتاخير، ولانهم لن يتمكنوا من القيام بواجب ضيافةٍ معهودة عُرِفَت بها اطقم الطائرات زمان، بسبب (ظرفٍ راهن) كنتُ وانا اشرب قهوتي السمراء في المطار قبل حين، قد اصبحتُ شاهد عيان عليه عبر تَلاسُنٍ بين اثنين من المشتغلين هناك، يحمل كل منهما جريدة بلون: “انتم الذين بداتم الامر كله”.. “ لا بل انتم من انكشفت نوايكم السـ..»
شيء اكبر من التوتر تلمسه هنا وتحسه يتنفس في الخارج ايضا، طبول تقرع في كل مكان تنذر بوقوع الحدث الكريه.. مشاحنات، تصعيد، ازمة، حواجز، مناوشات، عنف على الهوية، ثم حرب اهلية طاحنة امتدت الى خمسة عشرعاما اشعلت الاخضر واليابس، قرانا الكثير من فصولها وحررنا الاف الاخبار والتقاريرعنها لزمن طويل لاحق!!
اكتئاب واضح
ينتابني خوف مفاجئ ويلازمني اكتئاب واضح اثر تلك المشادة، احاول التخفيف من حدتهما بالتجول ماخوذا بين ارجاء المطار البهيج الذي يشبه البلاد كلها والتي لن تستمر كذلك على ما يبدو، وقلبي يخفق بشدة بين الضلوع كاْني به يريد القفز من مكانه مخترقا تلك الجدران الزجاجية الكبيرة، الى حيث قطعة سماء زرقاء تغلف بحرا اكثر زرقة، وخضرة تشهق ارزاً وزيتونا وليلكا، وسط عمارات وطرقات تتسلق خلف اسطح القرميد الاحمر وصولا الى سفوح وقمم صخرية لا متناهية، فيما خيالي يتلهف بحثا عن فيروز ورحابنتها، الصافي، شمس الدين والشحرورة، جبران ونعيمه، الروشة والرملة البيضا، كسروان، جعيتا وحريصا، جونيه والضبية، ساحة رياض الصلح والحمرا ووسط البلد، كيان رحب مكتظ باسماء وعناوين وتواريخ حفظتها سنة بعد سنة من مجلات وجرائد وكتبٍ واسطوانات وكرنفالات، عن بلد صغير بحجمه لكنه عميق بحضارته وامجاده، جميل بطبيعته وناسه.. سويسرا الشرق واكثر التي كُتِبَ عليها ان تعيش حروبا دورية..
من صنعها؟ من يوقفها؟ ولماذا بجب ان يحصل هذا؟!
اسئلة كثيرة اقضت مضجعي وانا امضي ليلتي في فندق قريب من مطار فيوميتشينو بروما، اعانتني في العثور عليه موظفة مغاربية تعمل هناك، قبل ان تقلني طائرة ثالثة في الصباح الباكر الى محطتي الاخيرة.. الى “الباهيه” تونس الخضراء التي على مرمى حجر! لماذا كل هذا العناء اذن؟.. عناء تراجع التفكير فيه وانا اتذكر كل ماحصل في مطار بيروت قبل ساعات، وذلك القبطان الذي تمنيت لو انني اترك مقعدي واذهب لمعانقته واقول له:”بحبك يا لبنان”.. المكان الذي عشت العمر في حسرة زيارته، حلم لم يتحقق الا بعد انتقالنا الى دمشق في ربيع 2006 تاركين بغداد المكتوية بجراحها الى امد نجهله. كان علينا مغادرة سورية كل ستة اشهر لاغراض تتعلق بتجديد الاقامة قبل صدور قرار بجعلها دائمية للصحفيين والادباء والفنانين وغيرهم ربما. زرت بلاد الارز ثلاث مرات، الاولى، ليومٍ امضينا معظم نهاره في انتظار مُمِلٍّ بمعبر(المصنع) لعل فائدته الوحيدة اكتشافي لالذ “مناقيش” اتناولها في كشك صغيرعلى الشارع، وليلةٍ ابهرتنا متجولين ببيروت في الباص مع وقفة معقولة عند”الروشة”، تلتها زيارتان بثلاثة ايام لكل منهما.. والمجموع سبعة لم تشف غليلي، ففي كل مرة اغادر تظل نظراتي مشدودة الى جبال ووديان و”بقاع” يصعب عليَ فراقها ممنيا الروح بالعودة يوما!
استعراض كبير
«وينك ابو رولا؟”.. محسن الحسيني خبير المونتاج الذي عمل معنا في جريدة “الثورة” منتصف السبعينيات، غادر بعدها ثم انقطعت اخباره تماما، كيف ساعثرعليه وسط كل هذا الاستعراض الكبير..؟ لن انسى ما حييت احاديثه وروحه المرحة ابدا، وطنِيٌ، حَبّوب وطيب حتى النخاع. كنت خارجا ذات صباح باتجاه دائرة اطفاء ساحة “عقبة بن نافع” لتناول الفطور في احد المطاعم، واذا بصوت ينادي: “رياد.. رياد” بتضخيم الدال، كان قد اخرج راسه من نافذة مسكنه في طابق علوي بالجوار، ثم مُقَرِبا يده باتجاه فمه: “تعا تروء معي تعا..”.. كانت المائدة مكتظة بصحون جبن ابيض ولبنة وطماطة وخيار وزيتون اخضر..”لك هاي شنو؟ الوان العلم اللبناني كلها هنا”.. اقول ذلك مازحا، يضحك ويعانقني ثم يرسم كرة بحركة من يديه “ اييييي مو متلكو.. ..تشريب..باجة..تكة..كباب عا وش الصبح.. متخلفين..فلّو حلّو عنا..”.. ثم: “اخ لو تتركونا بحالنا انتو العرب والغربا وتخلو لبنان يعرف كيف بدو يعيش”!! ولانه يعمل ليلا على الدوام، كنا ناخذه الى سهرة في ابي نؤاس يوم العطلة، بصحبة “شلة” تضم ايضا علاء الدين حسين ومحمود عبد اللطيف عوني ومحمد السبعاوي وجاسم الزبيدي (الصحفي) واخرين. ويوم وصلت زوجته مع ابنتهما، حرصت على ان يتذوق الجميع اكلاتنا العراقية البيتية ذات مساء ساحر في “غدير” بغداد، وصار كلما يلتقيني يسالني: متى ناكل الكبة حامض بالسلق ثانية، “عجبتا ام رولا كتير؟؟»
في زيارتي الثالثة والاخيرة لبيروت كانت كنتنا اللبنانية هناك ايضا اتية من بغداد لتَفَقُدِ اهلها. “اروزه”..ارزة الجبل، هكذا كنت اسميها، عَرِفَتْ كيف تعثرعلينا بسهولة، لتقلنا مع نسيبها بسيارته من فندق “نابليون” بشارع الحمرا الى بيتهم في”المصيطبة”. سويعات اعادتنا الى ايام لن تتكرر من عمرنا العراقي المشترك، تدفع بطبق التبولة الكبير صوبي، “كول رياد.. كول ابو نصري.. هاي تحبا انت، كلما بشوفك بتذكر خيي جورج”..” الله يرحمو” نردد جميعا بصوت واحد.
وفي اب 1988 وكانت قد عادت الى بغداد بعد زيارة مماثلة لبيروت قالت: “نيالكون خلصت حربكن، تا ننطر دورنا بـءا.”.. كان لبنان يشتعل زمنذاك طبعا، فتقص علينا مشاهد من مآسيه، لكنها لا تخفي تفاؤلها ابدا بان المياه ستعود الى مجاريها يوما وبان الجميع سيظلون اخوة كما اعتادوا منذ مئات السنين. ومن يعرف بيروت جيدا يدرك معنى التالف والعيش المشترك في منطقة مثل “المصيطبة” التي اخذتنا في جولة بين انحائها بعد الغداء، فنتوقف معها لتتبادل التحايا مع معارفها من الجيران واصحاب المحال والمارة. ويوم وضعت منشوري المعنون “لبنان يا قطعة سماء” في ايلول الفائت لم ترسم علامة دمعة او “زعل” بل اختارت اللايك، ثقة منها بان لبنان راجع راجع مثل طائر الفينيق.. اما انا فاكاد اسمع صوتها واصوات ابو رولا والمذيعة ريف عقيل وقبطان الطائرة اياه الذين يبدو عليهم انهم يحبون جنتهم الصغيرة بصدق، ويتمنون ان يدعهم الغرباء وشانهم، مع فارق مؤثر هو ان تلك الجورية اللبنانية العراقية صارت تعيش اليوم قلقا على بلدين عاشت حروبهما وتالمت لنكباتهما يجمعهما الكثير من الاشياء من بينها هَمٌ مشترك ثقيل، لكنه سيزول.. هكذا تعتقد، وانها لامراة شجاعة حقا، اطال الله بعمرها والاحياء الذين ذكرتهم والرحمة على الراحلين.. انتظروا وينتظرون جميعا شمسا جديدة ستشرق على جنات عا مد البصر.. ما بينشبع منها نظر!!