عثمان قادر ريشة تجسّد مأساة شعب.. تشكيلي ينجح بعولمة فاجعة حلبجة فنياً
السليمانية - باسل الخطيب
عاش طفولة تمتزج فيها ألوان الطبيعة الخلابة بألوان الأقمشة المزخرفة التي كانت عائلته تخيطها، فبات يعشق الألوان ويسعى لتوظيفها في تقليد مشاهداته وبيئته الكردستانية الآسرة، كما كان يفعل شقيقه وخاله اللذان كانا يحبان الرسم.. وفي المرحلة الابتدائية جذبت موهبته الفطرية بالرسم على جدران المدرسة، انتباه مدرس الفنية نوري إسماعيل، فاختاره لمساعدته وأهداه مجموعة أقلام باستيل، وفي بداية السبعينات من القرن المنصرم، شارك في معرض المدارس وحصل على جائزة، وفي المرحلة المتوسطة تنبهت لموهبته جريدة (التآخي) وكتبت عنه خبراً عنوانه (انتظروا هذا الفنان) كان بمثابة نبوءة لما سيكون عليه مستقبلاً، لاحقاً وفي مركز شباب سيروان، تنبه لموهبته المشرف الفني كامل أحمد، وعلمه أصول التعامل مع الألوان ومهارات فنية أخرى أفادته كثيراً في مسيرته اللاحقة، حيث بانت نتائجها في تميز لوحاته بمعرض بوستر العالم الثالث.
حرمان من الشهادة
ما أن تخرج من المتوسطة حتى واجه أول العقبات، عندما رفض قبوله في معهدي الفنون الجميلة في بغداد والموصل بحجة عدم الانتماء لحزب البعث! وفي غمرة يأسه جاءه الفرج عندما أبلغه أحد معارفه بأن الموافقة حصلت على افتتاح معهد للفنون الجميلة في مدينة السليمانية، لكن عليه الانتظار للعام الدراسي اللاحق حتى تتم إجراءات الافتتاح، وهو ما كان، حيث تم قبوله بالمعهد عام 1980 لأنه كان معروفاً من قبل أغلب أساتذته. وفي أولى سنوات دراسته بالمعهد، أقام أول معرض له، وكان محط إعجاب الجميع من تدريسيين وطلبة. وما أن أنهى متطلبات الدراسة بالمعهد عام 1985، حتى واجه العقبة الثانية في حياته، عندما رفضت إدارة المعهد تزويده بشهادة التخرج للسبب ذاته، وهو عدم الانتماء للحزب واتحاده الطلابي! ما اضطره اللجوء للجبل والالتحاق بقوات البيشمركة.
وبرغم التحاقه بالبيشمركة، إلا أن حلمه الفني ظل يطارده، فذهب إلى إيران أملاً بتوسيع اطلاعه الفني وإمكانية السفر منها إلى الخارج، بيد أنه واجه سلسلة متاعب ومعاناة، حيث اعتقل أكثر من مرة لأسباب مختلفة، وبقى رهن الاعتقال حوالي السنتين، ليقرر عند الإفراج عنه، العودة إلى كردستان، وهو ما شكل منعطفاً حاسماً في حياته، حيث يشاء القدر أن يكون شاهداً على مأساة شعبه، وما تعرضه له نتيجة حملات التهجير والأنفال والقصف الكيمياوي، حتى أنه كان من ضحايا ذلك القصف الذي كاد أن يودي ببصره وحياته لولا عناية الباري عز وجل، الأمر الذي ترك في نفسه أثراً عميقاً لم يفارقه حتى اليوم، ليقرر بعدها تكريس فنه لتجسيد تلك المأساة، وتعريف العالم أجمع بمعاناة أهله وناسه وما ارتكب بحقهم من جرائم ترقى لمستوى الإبادة الجماعية، حيث يدل حضور الضحايا العاجز على غيابهم وصمتهم، والصوت المخنوق لأمة بلا دولة، مشوهة ومُرغمة على الدفن في مقابر جماعية غير مميزة أو مُرغمة على المنفى، حشود من الرجال والنساء والأطفال الذين قُتلوا وعذبوا وأُرعبوا وحُرموا من ثقافتهم وحقوقهم الطبيعية في وطنهم وفي حياة كريمة، بحسب تعبيره.
يقول الفنان عثمان قادر أحمد، لقد نذرت نفسي وفني لتجسيد مشاهداتي الحية عن المأساة التي تعرض لها شعب كردستان وتعريف العالم بها لفضح نظام صدام، ويضيف ذهبت عام 1988 إلى إيران مجدداً عن طريق البيشمركة وأقمت عدة معارض فنية هناك تعرفت من خلالها على صحفيين وفنانين أجانب وعرضت لوحاتي في أنحاء العالم وفي عام 1990 ذهبت إلى سوريا لإقامة معرض فني هناك ومنها إلى روسيا ومن ثم ذهبت بلوحاتي عام 1991 إلى بريطانيا حيث كثفت جهودي الفنية.
ويوضح أن جامعة لندن للفنون قبلتني لدراسة الماجستير فيها عام 2006 استناداً لخبرتي الفنية وأعمالي التي عرضتها في بريطانيا وخلال أول شهرين من الدراسة تم عرض أعمالي التي تجسد مأساة ضحايا الأنفال في واحد من أهم المعارض الفنية هناك وهي قاعة الرسام المشهور وليم تينر (1775-1851) حيث عرضت لوحاتي فيها لمدة ثمانية أشهر متتالية، ويلفت إلى أن ذلك المعرض جذب انتباه متحف الحرب الإمبراطوري حيث نظم لي عام 2007 معرضاً شخصياً عن الأنفال والقصف الكيماوي والتهجير والإبادة الجماعية للكرد وتدمير قراهم ومزارعهم في قاعة سير جون ذات الأهمية الكبيرة حيث كنت الفنان الثالث الذي تعرض أعماله هنالك كونها تعبر عن مأساة إنسانية فضيعة.
صور فوتوغرافية
ويوضح الدكتور عثمان قادر أحمد، لقد حصلت على شهادة الماجستير عام 2007 ومن ثم الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 2013 وكانت اطروحتي عن توثيق ذكريات الناجين من الأنفال عن طريق الرسم لعدم وجود صور فوتوغرافية أو فيدوية توثق تلك الجرائم، وينوه إلى أن ذلك اضطرني العودة إلى كردستان لمقابلة 15 ناجياً من الأنفال وسجن نقرة السلمان والاستماع إلى قصصهم وذكرياتهم تمهيداً لتجسيدها فنياً من خلال رسم أكثر من 355 لوحة.
ولم يكتف الفنان الكردي بذلك حيث كثف نشاطه الفني إلى مناطق جديدة من العالم كما يقول، ويواصل لقد أقمت ندوات ومعارض في ألمانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وتركيا وغيرها لفضح الجرائم التي ارتكبت بحق شعبي الكردي كما شاركت في 14 مؤتمراً عالمياً عن موضوع الإبادة الجماعية وحصلت عام 2017 على جائزة تقديرية من الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية في جامعة بريسبان الأسترالية.
ويؤكد أحمد، على أن أكثر من 55 من لوحاتي ما تزال معروضة في متحف الحرب الامبراطوري حيث كتب عنها العديد من المواضيع في المواقع والمجلات الفنية، ويعرب عن أمله بأن يتمكن من إقامة مركز للحرب والسلام في السليمانية ومتحف للأعمال الفنية الخاصة بجرائم الأنفال والقصف الكيمياوي والإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الكردي.
لقد حظيت أعمال أحمد، بإشادة العديد من النقاد الفنيين العالميين، منهم سارا بيفان في كتابها الموسوم الفن من الصراعات المعاصرما مفاده أنه يستخدم تقنيات تكوين أحادية اللون بسيطة وماهرة لتصوير حشود كبيرة من الناس والشخصيات التي خلقتها الحشود في كل من الأشكال التمثيلية والمجردة حيث تُرى الوجوه الفردية لكنها لا تنفصل أبداً عن الحشد فهي تظهر في كيان متميز مع التركيز علی حجم الأحداث والدمار والصدمة والحيوية العاطفية للذاكرة.
وتمت قراءة أعمال الفنان عثمان قادر أحمد، في متاحف فنية هامة في بريطانيا، واختار البروفيسور ستيفن فيردين، لوحات من أعماله لمتحف (تيت بريتن في لندن)، وهو متحف شهير جداً في بريطانيا، فعرضت مع أعمال شهيرة للفنان البريطاني الشهير وليم تيرنير عام 2006 (جوزيف مالورد ويليام تيرنر، هو فنان رومانسي إنكليزي اشتهر برسوماته حول الطبيعية ومائياته والطبعات الفنية، وقد أشتهر برسوماته الزيتية كما يعدّ من كبار رسامي المائيات البريطانيين).
وفي عام 2008، كُرِمَ من قِبَل المتحف البريطاني للحرب، وهو متحف عالمي هام لأرشفة مأسي الإبادة الجماعية والحرب ضد الإنسانية. وقد كُرم كفنان شاهد على الحرب، واُقيم له معرضاً خاصاً أيضاً دام ثلاثة أشهر في هذا المتحف الذي يحتفظ الآن بلوحاته لتعرض على نحو دائم.
وتمت دعوته عام 2009، للمشاركة في دراسة اللوحة الأصلية (ليوناردو دافينشي الثائر) للفنان والفيلسوف الإيطالي الكبير، وتم ذلك بالتنسيق بين المتحف البريطاني وجامعة لندن للفنون الجميلة. وشارك في مؤتمرات محلية ودولية عقدت في العراق وبريطانيا وإيطاليا والمانيا بشأن الإبادة الجماعية والعنف. وكان له حضوره الفاعل في مؤتمر اسطنبول الذي عقد عام 2008 تحت عنوان (كي لا ننسى الغد). وهو صاحب نصب تذكاري للضحايا في مدينتي السليمانية وكفري.
وفي عام ٢٠١٥، صدر عن متحف الحرب البريطاني IWM كتاب (الفن من الصراعات المعاصرة) لسارا بيفان، وقد تضمن نبذة مختصرة عن الفنان الكوردي عثمان قادر أحمد ومحتوى أعماله المتعلقة بقصته في الأنفال مع نشر إحدى لوحاته بعنوان نقرة سلمان المرسومة بشكل مركب على قماش الكتان بمقاس ٦٥٠ × ٣٠٠٠ ملم.
وفي ٩/١١/٢٠٢٣، نشر كتاب رؤى الحرب: فن متاحف الحرب الإمبراطورية في المملكة المتحدة، للكاتبة ومنظمة المعارض (كلير برينارد)، وهو عبارة عن كتاب من ٢٤٠ صفحة، طبع من قبل مؤسسة متاحف الحرب الإمبراطورية (IWM). ويضم الكتاب أكثر من ١٧٠ عملاً لأكثر من ١٥٠ فنان مشهور عالمياً، من بينهم بول ناش و سي آر دبليو نيفينسون وديفيد بومبيرج وآنا إيري وجون سينجر سارجنت ووالتر سيكرت وويندهام لويس وإريك رافيليوس ولورا نايت وهنري مور وإيفلين دنبار ووليندا كيتسون وبيتر كينارد وجيلبرت و. جورج وكولين سيلف وويليام كروزير وروزاليند ناشاشيبي، والعديد من الفنانين العالميين الآخرين. وقد وضعت (برینارد) في كتابها إحدى رسومات الفنان عثمان قادر أحمد التخطيطيّة بعنوان (الهجرة)، وهي نتاج عام ٢٠٠٧، فضلاً عن كتابة نبذة وافية عنه باعتباره شخصاً تعرض بنحو مباشر إلى همجية نظام صدام حسين خلال حملة الأنفال بحسب ما أوردته المؤلفة.
وبجهود أحمد، أيضاً أصبحت معاناة أطفال حلبجة خلال قصفها بالأسلحة الكيماوية، وحملات الأنفال، جزءاً من كتاب مصور عنوانه (التفجیرات: الطفولة في زمن الحرب)، وهو عبارة عن سرد تصويري عالمي لتوثيق المأساة والبؤس من خلال عيون الأطفال طوال ١٠٠ سنة من الحروب حول العالم. وفي خطوة لتعريف الناس بآراء الأطفال واللوحات التي رسموها بأيديهم، وتم عرض صور الكتاب في معرض فني أقيم بتاريخ ٦/١٠/٢٠١٧ في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
ويعرب عن سعادته لنجاحه من إدراج شهادة أطفال حلبجة، بشأن جرائم القصف الكيماوي والأنفال المعبرة عنها في صورهم لتكون جزءاً من کتاب طبع ونشر في باریس من قبل منظمة ZERANE CONFLUENCE ARTISTIQUE برئاسة (جان بيير الديدان) مؤسس المنظمة، وهو مشروع مخصص للتعبير التصويري للأطفال الذين شهدوا الجرائم التي حدثت في المائة سنة الماضية في العالم.
وقبلها كانت أطروحة الدكتوراه للفنان عثمان ، التي وثقت الإبادة الجماعية للكرد (الأنفال ١٩٨٨) موضوعاً لكتاب عنوانه (تحقيق الرسومات: علاقة الرسومات بالعلم والثقافة والبيئة) من ٢٤٨ صفحة للكاتبة (سارة كيسي) والكاتب (جيري ديفيس)، صدر بتاريخ ١١/٦/٢٠٢٠ عن دار النشر المستقلة (بلومسبیري).. وتطرق لاستخدام التحليل البصري المتعمق للرسومات والمقابلات مع الفنانين والتحليلات النقدية، ودراسة كيفية استخدام الفنانين للرسومات كأداة بحث للكشف عن المعلومات التي لولا رسوماتهم لظلت مجهولة لا يعلم بها أحد.
•ببلوغرافيا
يذكر أن الفنان عثمان قادر أحمد، يعمل حالياً مديراً لمركز الدراسات الكردية (كوردولوجي) التابع لجامعة السليمانية.. وأسهم في تنظيم ثلاثة مؤتمرات عن الإبادة الجماعية في جامعة السليمانية.. وأصدر كتاباً واحداً باللغة الإنكليزية بثلاث طبعات، عنوانه الأنفال ذكرياتي عبر فن التخطيطات ، وتمت ترجمته إلى اللغة الكردية من قبل رزكار عمر علي.