الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عود بعد طول غياب

بواسطة azzaman

عود بعد طول غياب

علي الجنابي

 

رَجَعْتُ الى بَغدَادَ مُتلَهِّفاً لنَوارسَ دجلةَ بعدَ طَوالِ غِيَاب. غِيابٍ من اغتِرابٍ ضَاعَتْ بهِ الأيامُ باستِغراب، بين جَزعٍ وزَلَقٍ في دُروبِ الإكتِئاب، وفَزَعٍ وأرقٍ من غُروبٍ مُوجعٍ بعَذاب.

عُدُّتُ الى بَغدادَ وما ابتَعدتُ لحظةً عَنها في فُؤاديَ باحتجَاب، بلِ النَّبضُ فيهِ كلَّ حينٍ كانَ نابضاً بمَقامِ البَياتِ باستِطرَاب:

«على شَواطئِ دجلَة مُرْ، يا مُنيَتي وقتَ الفَجر، شُوفوا الطَّبيعة تِزهي بَديعة، ليلة ربيعَة يضوي البدرْ. دجلة نَهَرنا يروي شَجَرنا، مَحْلى فَجرنا لمَّنْ يطرّْ، ..».

  عُدُّتُ لبغدَادَ فقبَّلتُ رأسَ ما تَبقَّى من أهلِ داريَ الأحبَاب، ولقد بَصُرتُ رُؤوسَهمُ بالغَمِّ مُتَذَمِّرَةً بانكِبَاب، وبالهَمِّ مُتَخَمِّرَةً باستِقطاب. فقَالُوا لي؛ « كُلْ قِطَعَاً مِن كَعكَةِ بهجَتِنا بكَ والمُعطَّرةِ بماءِ دجلةَ بخِضَاب، والمؤطَّرةِ بعَسلِ تَمرِها، وبَيضُ نوارِسها كانَ لها الرُّضَاب». فأجهَضتُ على قطعَةٍ ثمَّ نَهَضتُ مُيَمِّماً وَجهيَ شَطرَ منزلِ صَديقٍ من سَالفِ الأصحَاب.

صَديقي هذا هوَ لديَّ الأعزُّ بينَ الصّحاب، وما إنفكَّ يَعصِفُني طِيلةَ سِنينَ مِن اغتِراب، بكَومةٍ من لاذعِ ولاسعِ الخطاب، على مَعَرَّةِ هَجريَ الوَطنِ وما كانَ يُباليَ بما لديَّ من أسبَاب، بل يزدادُ عصفاً على فِراريَ مِن الوطنِ كلمّا حاقَ بِرافِديهِ والتُّراب، غزوٌ غاشِمٌ باغتِصاب، قد سَاقَ معهُ أدِلّاءَ من الهَوامِ والذُّباب، وأذلّاءَ مِمَّا سيخلِفُهُ من الأذناب. وكانَ ينصحُنيَ أنَّ الأوطانَ حينَ رَغدِها أحضَانٌ لأهلِها ولضيوفٍ أغراب، و حينَ نكدِها هيَ خنَادِقُ كفاحٍ لأبنائِها حتَّى يَنجليَ الضَّيمُ والضَّباب، وما كانَتِ الأوطانُ قطٌّ فَنادِقَ استِجمامٍ واستِرطاب.

ضَرَبَ خُنصُري على الجَرَسِ فَفتحَ صديقي ليَ الباب، فأعربَ لي بحنينٍ صَافٍ وَافٍ وخَلَّاب، وأنينٍ آسرٍ سَاحرٍ من تِرحاب. ثمَّ هَربَ حنينُنا وأنينُنا الى كأسِ دَمعٍ فَشَربنا منهُ باضطِراب، ثمَّ غَربَ من صَديقي كلَّ عَصفٍ وقَصفٍ كانَ قد قذفَني بهِ طَوالَ أيامِ الغياب.

ناديتُهُ بكلمٍ مَكلومٍ من فمٍ يَتَبَلَّعُ باللُّعاب؛

- كيفَ أنتَ يا خيرَةَ الأحباب؟

- لا تَسلْ  عِراقيَّاً «كيفَ أنتَ» في ذا حقبةٍ من أحقاب، بينَما عينُكَ ترى ما في البلادِ من سُبابٍ وخرابٍ تَباب، ومن كلابٍ جوَّالةٍ في الدِّراب، لكيلا تضطَرَّهُ لردٍّ كاذبٍ من جَواب؛ « أنا بخيرٍ ولا يَنقُصنيَ إلّا رؤيةَ الأحباب».  

   - قد عُدُّتُ في أجازةٍ خاطِفةٍ لأتَمَلَّصَ من آهاتِ الاغتراب، وأتَخَلَّصَ ولو لشهرٍ من واهاتٍ في الصَّدرِ جَلَلٍ صِعاب

  - حسَناً فعلتَ يا نابِضَاً «بالهامبُرغرَ»، ورابضاً في «الكافِيه» ورافِضَاً لليشماغِ والجلباب. وإنَّما في تُرابِ الوطنِ رَنَّةٌ بِأنَّةٍ من عذاب، وكُثَيِّبُ رَملِهِ هوَ على الخَافقِ دَوماً غالبٌ غَلَّاب. وذلكَ كُثَيِّبٌ لا يشعرُ بدِفئِهِ إلّا مَن فارَقَهُ شَطرَ الهَوى الأشقرِ الجَذّاب. وأراكَ قد غَرفتَ من ذاكَ الهَوى حتَّى بردَ الوَطيسَ وكفَّ عنكَ سيلُ اللُّعاب. ثمَّ عَرَفتَ دِفءَ النَّوى في هذا الكُثيِّبِ الغَلّاب، فَذَرَفتَ الدَّمعَ فانجَرَفتَ صَوبَهُ توقاً بانقِلاب، وإذِ كان السَّمعُ «على شواطئِ دجلة»مُرْ» لكَ رافِعاً، والدَّمعُ فيكَ وقتَ الفجر دافعاً والأهداب.  

رعشة الاهداب

- أجل، يا زبدَةَ مَن رأتَ عينيَّ من أصحَاب. بيدَ أنَّ دَمعيَ قد جَفَّ وكَفَّتْ رَعشَةُ الأهداب، لمَّا بَصُرتُ وأنا في طَريقيَ إليكَ العَجبَ العُجَاب من الخَراب. إذ رأيتُ القومَ قد أبدلَوا صورةَ الزَّعيمِ بألفِ صَورةٍ لزعماءَ شتّى من أحزاب وحتَّى عمائِمَ دينٍ شيبةٍ وشَباب، وإذ شَعرتُ أنَّها وجوهُ لضباعٍ، وبعضُها كانت أقربُ لوجوهِ ذئاب. ورأيتُ القومَ يكرَهونَ كلَّ أشارةِ مرورٍ ويَتَفَكَّهُونَ بالشَّغبِ والصَّخبِ جيئةً وذهاب. ويتَفَوَّهونَ بكلِّ تلاعنٍ وتلاحنٍ وسباب. وشَعرتُ أنَّهم مُتَرَفِّهونَ بحَالكٍ من جهالةٍ ولا يفهمونَ خردَلةً في فيزياءَ و كيمياءَ ولا حتى الحِسَاب. وعَجَبي هذا أُبدِيهِ بينَ يَديكَ بامتعَاضٍ وارتيَاب، وعسى أن يكونَ بؤبؤُ عينيَ هو الحاقِدُ الكذَّاب، فما عهَدتُ بني قوميَ عبر سِجلَّاتِ الأحقَابِ والأعقَاب، إلَّا من ذوي الفضائلَ ومن خيرةِ الأنسَابِ والأحسَاب. فهَلَّا أنبأتنيَ الصِّدقَ يا صاحبي باقتِضاب؛ ماهذا السَّفهُ في النُّفوسِ والسَّفلُ بأقبحِ ما يكونُ من خطاب. وعَلامَ قائِمٌ ومستَمِرٌّ هذا الخزيُ وهذا الخَراب. أوَليسَ الحِصارُ عنِ بلدِنا قدِ انقَشَعَ، والاستبدادُ عن مُتونهِ قدِ انخَلَعَ، ثمَّ قانونُ «الدِّيمُقراطيةَ» في قلبهِ قدِ انجَمَعَ، وهاهوَ»بنكُهُ» المركزيِّ بالأموالِ قدِ فاضَ وارتَفَعَ فوقَ السَّحَاب. فعلامَ قائِمٌ هذا السَّفلُ وهذا الخَزيُ والخَراب؟

  - لا أدري يا أخيَّ، وحقَّاً لا أملكُ بينَ يديَّ لكَ من جواب. بل أعلمُ أن حُكمَ البلدِ مدعومٌ من أممِ الغربِ كافةً بإيجاب، وأعلمُ أنَّهُ مباركٌ من مراجعِ الدينِ كافَّةً باستحباب، ومؤَيَّدٌ من رؤوسِ العشَائرِ وغيرُ مُعاب. أنا حقَّاً لا أملكَ لكَ تبياناً عن ذا سَفَهٍ وسَفَلٍ باسهاب. ولكَ أن تقذِفُنيَ الآنَ بعَصفٍ من عِتَاب بل بقَصفٍ من عِقاب، جزاءً وفاقاً على ما عَصَفتُ بهِ عليكَ طِيلةَ أيامِ الغِياب في الإغتِراب. عصفٌ بصَرٍّ من ريحِ الخيانةِ لهَجركَ الوَطنِ كلمَّا حاقَ بِرافِديهِ والتُّراب غزوٌ غاشِمٌ باغتِصاب. وبأنَّ الأوطانَ حينَ رَغدِها أحضَانٌ لأهلِها وضيوفٍ أغراب، و حينَ نكدِها هيَ خنَادِقُ كفاحٍ لأبنائِها حتَّى يَنجليَ الضَّباب، وما كانَتْ قطٌّ فَنادِقَ استِجمامٍ واستِرطاب.

ولقد اكتَشَفتُ اليومَ أنَّ كلَّ أولئكَ كانَ مِنّي مَحضُ هَباءٍ في هضَاب. ثمَّ إنِّيَ أرى أنَّ الشَّهرَ طويلٌ أمدُهُ عليكَ في بلادِ الغَاب، فعُدْ راشِداً في غدٍ أو بعدَ غدٍ، ودَعْ لنا الهمَّ والغَمَّ وشَوْكَ الرّهَابِ ولوكَ اللُّعاب.

ألتمسُ منكَ العذرَ يا صاحبي على مافَرَّطَ لساني بحقِّكَ من عَصْفٍ وقَصْفٍ فَاقدٍ للذَّوقِ والآداب.

مهلاً؛

هلّا تَكرَّمتَ عليَّ فأرسَلتَ اليَّ تأشيرةَ دخولٍ لبلدكَ الثَّاني يا خيرَ فطنٍ بل سيدَ أولي الألباب.

 

 


مشاهدات 110
الكاتب علي الجنابي
أضيف 2024/10/14 - 3:54 PM
آخر تحديث 2024/10/16 - 12:52 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 262 الشهر 6649 الكلي 10036372
الوقت الآن
الأربعاء 2024/10/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير