حشرجة أبي المغيث الحلاج
عبد الجبار ناصر
النهار يتثاءب وقرص الشمس يدنو من الأفق المزروع ببساتين النخيل ليقبله ويوعده على لقاء جديد. بعد ساعات سينقضي اليوم ليغدو فقط رقما في لوح الزمن المبتدئ من بداية التكوين إلى نهاية الكون. على الرغم مما يجري وما سيجري، تتعاقب الساعات، وتتواصل الحياة، وتتوالى الأجيال، فالزمن في مسير ذي اتجاه واحد لا يتوقف ولا يكرّ. بلغت الخامسة والستين من عمري. أراه عمرا كافيا قلت فيه ما في صدري وأبحت فيه عشقي للخالق.
الموت لا يرهبني، بل يسعدني لقاؤه، لأنه يعصمني من زلل محتمل بعد مسيرة طويلة مثمرة. لكن، لماذا هم مهوسون بموتي؟ لعلهم نسوا، لضيق أفقهم وفساد عقولهم، أن ملاك الموت يحوم فوق رؤوسهم أيضا. سيكنسهم الموت كما تسف الريح ذرات التراب. الغانم في هذه الدنيا من بقي خالدا ذكره الطيب. أما المقتدر وأبن العباس ومؤنس والقاضي أبو عمر، سيوصمهم التاريخ بالعار إلى الأزل.
لون ذهبي
يطلي المغيب المدينة المستباحة بلون ذهبي كأنه لهيب نار مستعرة، وينعكس اللون الناري على موجات نهر دجلة القريب من مكان مقتلي، فتبدو كأنها سبائك ذهب طافية. ها هي منائر بيوت الله تتجاوب بأذان المغرب. أصوات المؤذنين تتسلل إلى داخلي كقطرات الندى وحبات البُرَد. أشعر بها تلامس الجراح، وتغسل الدم عن أطرافي المبتورة. يسرع المساكين في هذه اللحظة إلى الصلاة لأنها فرصتهم المتاحة الوحيدة لينطقوا بالشكوى عن حقوقهم المصادرة وأوضاعهم المتردية، ويتوسلوا إلى الخالق بالخلاص وتحقيق المعجزة. كانت صلاتي الأخيرة قبل ليلتين، بعد أن جاءوا بي من دار السلطان إلى باب خراسان وفي يديّ ورجليّ ثلاثة عشر قيدًا، وبعد أن جلدوني ألف سوط، وقبل أن يشدوني على الصليب بحبال غليظة. كانوا حينها قد بتروا يديّ، وبدماء ساعديّ توضأت. صلاتي كانت ركعتين. ركعتان في العشق توجّب وضوؤهما بالدم. حول صليبي، وقف الحراس وحاشية السلطان الإمعون المقنعون بالتقوى صفوفا للصلاة. كانوا جميعا ملتحين. لم يجد ابليس سكنا أكثر رحبة من رؤوسهم الفارغة.
قبل برهة، وقف أمامي، رافعا رأسه، قائد جيش البغي، المدعو مؤنس، (الخادم)، بالأمس و(المظفر)، اليوم، وبيده قارورة شراب، مترنحا يكاد يهوي على الأرض لولا إسناد أثنين من جنوده. صاح بصوت متقطع بطيء يرتج بالسخرية: “أيها المجذوب المعلق، يا عدو الله، أيها الكافر المجنون، كثيرا ما هذيت بسعيك إلى الحقيقة. أليس كذلك؟ هل لك أن تفهمني ما هي الحقيقة؟”
أجبته وكان عليّ فعل ذلك لأن الدعوة إلى الحقيقة واجبي. قلت له بصوت أوهنه فقدان الدم والبرد والعطش: “أفهام الخلائق لا يتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق، والإدراك إلى علم الحقيقة صعب، فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟ الحق وراء الحقيقة، والحقيقة دون الحق.” كان في مقدوري الجواب بمفردات سهلة بسيطة، لكني تعمدت إشعاره بجهله وضحالة تفكيره.
قهقه المعتوه المتغطرس، ثم التفت إلى أتباعه: “هل فهتم شيئا؟” هزوا رؤوسهم الفارغة كالطبول بالنفي. عاد مواجها لي: “لم أفهم شيئا من هذا الهذيان. أثبتَّ لي وللجمع هنا أنك مجنون حقا.”
إنه معذور لجهله. إنه مثل سيده “المقتدر” الذي قيل عنه (لا قرأ السير، ولا عرف الأخبار). منعته أمه “شغب” من قراءة الكتب كيلا يدرك ما يدور حوله، فقد تولى أمر الناس وعمره ثلاث عشرة سنة! أيعقل هذا؟ ذلك ما أرادته الحاشية لتحفظ هيمنتها وامتيازاتها في ظل طفل قد تفرحه قطعة حلوى ويبكيه مغص وتخيفه وثبة قطة. عندما قبضوا عليّ، طلبت منهم مقابلة الخليفة المقتدر. قادوني إلى القصر وسط مئات الجنود بين فارس وراجل، المسلحين بالسيوف، والدروع، والرماح، والعصي، خوفا من أن تساعدني الجن على الهروب! أدخلوني إلى القاعة التي يجلس فيها من يدعونه (أمير المؤمنين). استغربت على ما كان الحال عليه من بذخ وترف اللذين حجبا عن الخليفة الدمية ما تعانيه الرعية من بؤس وشقاء. كان هرم السلطة الأجوف متربعا على سرير من الأبنوس مغطى بالدَّيبقي المطرز والمزين بالجواهر، وإلى جانبه جلست أمه “شغب” المثقل عنقها بقلائد الذهب والماس، واللؤلؤ، والعاج، والزمرد. أثمان السرير والقلائد والخواتم والأساور تشبع أهل بغداد بجانبيها؛ الكرخ والرصافة! وقف الوزير حامد بن العباس بجوار السرير، متكئا بكلتا يديه على مقبض عصاه وقد ارتسمت على غضون وجهه المتجعد ابتسامة ماكرة. خاطب الشاب الجالس على السرير وأمه، فيما أشار أصبعه إليّ: “مولاي أمير المؤمنين.. سيدتي المبجلة.. ها هو الزنديق الذي يقول إن الله قد حلّ فيه، والله أنا، وأنا الله!”
صحتُ فيه صيحة أجفلته: “كذبت أيها المخرف. أنا عبد من عباد الله، مؤمن بنبيه وقرآنه، ديني الإسلام وقبلتي الكعبة. أما أنت وأمثالك من الوزراء الفاسدين، فسلعة بائرة، والمناصب التي توليتموها لم تحصلوا عليها عن جدارة وسمعة في الإدارة، بل اشتريتموها بالمال السحت.
ارتبكت السيدة الأم ورفعت يدها بالسكوت، خشية أن يقود الجدال إليها، فهي الشخص الوحيد الذي بمستطاعه بيع الوزارات في مزاد سري. تساءلت شغب: “يا ابن العباس، هل لديك شهود على ما تقول؟”
أجاب متلعثما: “كل الناس يقولون إنه قال ذلك. ليس هنالك من يتجرأ ويشهد خوفا من شياطين الحلاج.”
سألته السيدة ممعنة النظر فيه: “هل صادف ورأيت شيطانا من شياطينه؟”
أجاب بلهجة المنتصر الواثق: “سيدتي المبجلة، الشياطين لا تُرى بالعين!”
قال المقتدر وهو ينقل عينيه بين الوزير وأمه: “كيف إذا تبينت أن له شياطينا مردة؟”
تلجلج أبن العباس ولم يحر جوابا. قالت الأم وهو تضع يديها على ركبتيها: “ما يخص الله، فالله هو من يحاسبه أما من يتجاوز على سمعة الخليفة والدعوة للثورة عليه فهذا يستدعي أقصى العقوبة.”
سيدنا الخليفة
هزّ الوزير رأسه إلى الجانبين مثل طير مفترس يتأهب للانقضاض على فريسته: “ أؤيدك يا سيدتي. لم يكتف الحلاج بالكفر، بل تمادى في الغي حتى دعا الناس إلى الثورة على سيدنا الخليفة، أبن عم الرسول صلوات الله عليه وسلامه.”
قال المقتدر وهو ينظر بعيدا يتحاشى النظر إليّ: “قل ما لديك.”
قلت وصوتي يدوي في القاعة حيث خيم الصمت: “لم أتِ طلبا للعفو، بل جئت للنصيحة قبل فوات الأوان. أحذرك من الغرور، والاعتزاز بالسلطة، فمن اعتز بغير الله ذلّ. من أطاع الله أطاعه كل شيء. ما أنت سوى آلة يحركها القدر الإلهي تنفذ أحكام الرب ومشيئته. انصحك النظر في عواقب أمرك، والتأمل بثاقب فهمك، وصافي فكرك. خدمة العباد طاعة لله وراحة للضمير.” وخرجت.
أرى- أو يُخيل لي، فما عدت أميز الآن بين الواقع والخيال - ساحات بغداد ودروبها الفقيرة المتربة الممتدة أمام ناظري قد مُلئت بمئات، بل بآلاف المصلوبين على جذوع النخيل. يا إلهي! أراهم ينطلقون بسرعة مذهلة عاليا كالشهب حاملين المشاعل، فرادا وجماعات، يخترقون الغيوم ويضيئون السماء، ثم يغيبون في الأجواء العالية البعيدة. ثمة صمت مريب كئيب. لا شك أن السيوف المأجورة تخنق صيحات الاستنكار، ونداءات التمرد، وصراخات الأيتام والأرامل، وترانيم الحزن الموجع. تقطع الصمت أصوات المريدين، الساذجين المثقلين بالمحبة، مطالبة بحريتي. تجاهلوا، عن محبة وتعاطف، أني في الطريق لأعظم لقاء أتوقعه. تجاهلوا أني لن أنل حريتي بعد أن أقر مفتو قصر الخلافة، من دون إثبات أو دليل، بقتلي بعد أن أرهقتهم معرفة أسراري. أعلم عن يقين لا يتزحزح، أن من أفشى سر الحق إلى الخلق، وأراد يحفظ ذلك الوقت عليه، أُنزل عليه بلاء لا يطيقه الكون. لكن كيف لي أن أكتم حبي العميق له وأنا على تمام الثقة بأنه في داخلي، مع أنفاسي ودقات قلبي؟ من كتم حبه فليس محبا، فالعشق لا يعرف الصمت.
يا لخفة أبدان المحبين! يا لطهارة أرواحهم! أعلم أن الطير وهو يتهيأ لينطلق في الفضاء، يصف قدميه ويفرش جناحيه ويرفع رأسه. أليس حال المصلوب كذلك؟ أليس هذا حالي الآن؟ لا يساورني أدنى شك بأني شاهد آني على العشق الأزلي. سأكون شهيد العشق الأزلي. لكن من عميت بصائرهم سمّروني على لوحٍ خشيةَ أن أطير أو أُغيب أو يخطفني الجن- كما يزعمون، وقد غشيهم ظن أثيم بأنهم سيمحون ذكري إلى أبد الآبدين، وما أدركوا، قد يكون ذلك مبعثه عناد غبي أو انحطاط موروث، أن إعدام الطيبين العقلاء خلود. من المحال أن يدركوا أن القتل، أو الشنق، أو الصلب، أو حز الرؤوس ضريبة يدفعها الضحايا الأبرياء ليصيروا نجوما تشع عندما يدلهم الليل. يا لغباوتهم! لو شاء الحبيب لتناثرت المسامير وتهاوى جذع الصليب، لينتشلني من أيدي البغاة، ويقطع النزيف ويسكت العطش. لو شاء لرفعني في اليوم الأول إلى جواره حيث يكون، لكنه يؤجل لقائي لغاية لا أدركها. كم بي من شوق إلى لقاء حبيبي، الواحد الذي كشف لي عن أسراره! آه، يا من أسكرني بحبه، وحيرني في ميادين قربه!
ها هي أسراب من الحمام تخفق اجنحتها في سماء بغداد التي سوّرها المنصور وأغناها الرشيد وثقفها المأمون وسوّدها المقتدر. تنتظم الأسراب في صفوف على شكل قوس طويل. لعلها تؤدي صلاة جماعية وداعية أو طقوسا راقصة على أنغام خفية احتفالا بموتي. إنها فوق رأسي تماما في هذه اللحظة. تدور، دائرة داخل دائرة، كأنها هالة واسعة. أهي رسالة أخرى من الحبيب؟ نعم. نعم، إنها تنبئني بما سيكون. من عرف من أين جاء، عرف إلى أين يذهب. ومن علم ما يصنع، علم ما يُصنع به. ومن علم ما يُصنع به، علم ما يُراد منه. ومن علم ما يُراد منه، علم ماله. ومن علم ماله، علم ما عليه..
عبيد الدينار والدرهم يتقفزون كالقردة فرحين لأني معلق فوق هاوية الموت ولا يفصلني عنها سوى لحظات قليلة. هؤلاء العبيد قيادهم بسيط واقناعهم سهل، أغنام ما أن تسمع صيحة الراعي أو صفيره، حتى تركض مسرعة يزاحم بعضها بعضا. يصدقون كل ما يقال، والسلطان والوزير لا يبخلان بعسل الكلام، فأحاديثهما عن الخير والرفاه سحابٌ خُلَّبٌ.فجأة هدأ الجميع. تقدم العجوز الشرير ابن العباس الحشد وهو يرفع يده بورقة. دبت الحركة، وجيء بحطب كثير. فكّوا الحبال الغليظة وأنزلوني. تقدم نحوي رجل بهلوان يمرن ساعده وهو يضرب الهواء بسيفه. إنه السيّاف الموكل بحز رأسي. أشتعل كوم الحطب، واقترب السيّف أكثر من البارية التي وضعوني عليها بوضع السجود. سمعت الكون يردد ابتهالي الأخير. في تلك اللحظة، حملتني الملائكة وبيدي مشعل، ورحنا نحلق عاليا عاليا حتى اختفت عن ناظريّ بغداد، والناس، والأرض، والدنيا.