بين عدل عليّ وترف الساسة
علي حربوحش المسعودي
حين اعتلى الإمام عليّ عليه السلام منبر الحكم، لم يقدّم نفسه كمالكٍ للسلطة، بل كخادمٍ للحق. أعلن ذمّته المالية أمام الناس بقوله: «أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي، فإن خرجت بغيرهن فأنا خائن». بهذا الإعلان البسيط، وضع قاعدة أخلاقية صارمة: الحكم ليس ميراثًا يُستثمر، ولا وسيلةً للثراء، بل امتحان أخلاقي يعرّي جوهر الإنسان. دخل بجلبابٍ وخرج بجلبابٍ، ليؤكد أن السلطة لا تغيّر جوهر الإنسان إذا كان متشبّعًا بالعدل والزهد.
الفلسفة السياسية في جوهرها تسأل: ما غاية الحكم؟ هل هو امتياز أم مسؤولية؟ الإمام عليّ أجاب عمليًا: الحكم عبءٌ يُحمل لا غنيمة تُقتسم. فالسلطة عنده ليست سوى أداة لإقامة العدل، وإلا فهي عبثٌ وظلم. لكن واقعنا اليوم يكشف انقلابًا على هذا المبدأ. السياسيون يدخلون الحكم بجلبابٍ، ويخرجون منه محاطين بالقصور والمواكب والعقارات. لقد تحوّلت السلطة إلى ميتافيزيقا للامتياز، حيث يعيش الحاكم في عالمٍ منفصل عن شعبه، في ترفٍ ونعيم، بينما الناس يئنّون في صمتٍ دائم. هنا يظهر التناقض الفلسفي: كيف يمكن لحاكم أن يدّعي تمثيل شعبٍ يعيش في المعاناة، وهو نفسه يعيش في رفاهية لا يعرفها شعبه؟
إنّ الشعوب التي تمتلك ثروات عظيمة، لكنها محرومة من توزيعها العادل، تعيش مأساة فلسفية قبل أن تكون مأساة اقتصادية. مأساة أنّ الإنسان يولد في رحم المعاناة ويموت محرومًا، بينما السلطة تُعيد إنتاج الامتيازات لنفسها. إنها صورة لـ»الاغتراب السياسي»: حيث ينفصل الحاكم عن الجماعة، ويصبح الحكم وسيلةً لتكريس ذاته لا لخدمة الآخرين.
الفلسفة تعلمنا أن الحكم بلا عدل هو شكل من أشكال العدم؛ وجود بلا معنى. الإمام عليّ جسّد هذا المعنى حين قال: «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طُعمه بقرصيه»، فكان حضوره السياسي امتدادًا لأخلاقه، لا انفصالًا عنها. أما اليوم، فنرى السياسة وقد انفصلت عن الأخلاق، وصارت مجرد إدارة للمصالح الخاصة.