الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بغديدا - قره قوش.. بلدة عراقيّة موصلّية مسيحية بإمتياز

بواسطة azzaman

بغديدا - قره قوش.. بلدة عراقيّة موصلّية مسيحية بإمتياز

لويس إقليمس

 

عُرفت بلدة بغديدا أو قره قوش الرابضة في سهل نينوى الهادئ بكونها من القصبات العراقية التي تتميّز بطيبة ناسها وجمال أزيائها وأصالة تراثها ونظافة أحيائها وشوارعها ومساكنها، إضافة إلى صفات أخرى مثل طبيعة تسامحها الإنساني والديني ووضعها الجغرافي والطوبوغرافي والوطنيّ الهادئ والمتميّز عن غيرها من قرى وبلدات سهل نينوى وما يحيط  ويلفُّ مدينة الموصل وعموم محافظة نينوى من حيث كونها ملتقى للأدب والفكر والشعر وخير مساحة لاستيعاب التنوع الإتني والثقافي والسياسي على حدّ سواء.

ملاذ القاصدين

يحكي لنا تاريخها الكثير ممّا تعرّضت له هذه البلدة المسيحية الهادئة الراقدة جنوب شرق مدينة الموصل (على بعد ما يقرب من 30 كم) حيث أصبحت ملاذًا لقاصديها الجدد ممّن سكنوها منذ أكثر من عشرة قرونٍ خلت بحسب بعض الرواة وقصاصات التاريخ في زمن الاضطهادات والتغيّرات الدينية. ولكون تاريخها يعود لعصر السلالات الآشورية القديمة بحسب بعض الرواة من الكتاب والباحثين والرحالة الذين زاروها أو مرّوا بها في رحلاتهم ومنهم الرحالة ياقوت الحموي الذي زارها في القرن الثالث عشر الميلادي وذكرها باسم «باخديدا» في كتابه «معجم البلدان»، فهذا من شانه أن يمنحها بركة السماء كي يحافظَ أهلوها وساكنوها الأصليون على أرض الآباء والأجداد من دون أن يضحوا بهذا التاريخ المشرّف الموغل في القدم كالشجرة الأصيلة الباسقة التي تنهل ماءَها ونسغَها من خيرات أرضها القريبة من نهر دجلة الخالد على جهتها الغربية. وهناك اعتقاد آخر موثوق جاء على ذكر مدينة «راسن»، وهي المقصودة في هذه التسمية الآشورية بحسب بعض الكتابات القديمة ومن زارها من الرحّالة والباحثين. لكن من المؤكد أنّ هذه البلدة الرابضة في هذا السهل الهادئ قد شهدت وقائع حربية وهجمات بالقرب منها أرادت النيل من موقعها وتاريخها في أزمنة غابرة. ما يعني أنها كانت محلّ أطماع الغزاة على مدار تلك الحقب التاريخية بين السلالات الحاكمة آنذاك من بابلية وآشورية وفارسية وغيرها. ولعلَّ ما يمنحها هذا القدر من الأهمية التاريخية وقوعها على مقربةٍ من إحدى العواصم الاشورية، مدينة «كالح» - «النمرود» القائمة آثارُها لغاية الساعة والتي تزخر بها مثل غيرها من المواقع الاثارية في عموم البلاد. كما كشفت تنقيبات سابقة عن العثور في مواقع عديدة من هذه البلدة المسيحية على آثار تشيرُ إلى الحقب الآشورية التي حكمت المنطقة في حقبٍ سالفة من الأزمان.

هناك مَن يعتقد بدخول المسيحية الأولى إلى «بغديدا» في حقبة القرن الأول الميلادي أو ما بعده بقليل. ومع توالي الأيام وتغيّر الأهواء والظروف، أخذت الأفكار النسطورية تتسلّل إلى هذه البلدة الهادئة وما حواليها في سهل نينوى في مستهلّ القرن الخامس الميلادي بفعل هيمنة هذا الفكر الرافض لعقيدة جمع أفسس لعقود عديدة حينذاك على المسيحية الأولى في المنطقة. ولكن سرعان ما شهدت لاحقًا بعد أكثر من قرنين تغيّرًا في اتجاه الأفكار اللاهوتية بفعل الجدالات الكنسية الحادة بين أتباع المذاهب اللاهوتية التي عصفت بالكنيسة عامةً، ما أتاح الفرصة للراهب «يوحنا الديلمي» بتغيير معتقد معظم أهالي البلدة إلى السريانية الأرثوذكسية. وبقيت على هذه الحال قرونًا مديدة لغاية أن أضحت في بعض الفترات مقرّا بطريركيًا لأتباع كنائس السريان اللاخلقيدونيين في عموم شمال العراق والبلدان المجاورة قبل تشعبهم فيما بعد إلى سريان (كاثوليك) و (أرثوذكس) في فترة الاضطهادات التي عصفت بالمسيحيين في مدينة «تكريت» حين اضطرار نزوح الكثيرين منهم إلى الموصل وضواحيها وغيرها من مدن البلاد والمناطق المجاورة للعراق. كما عُرفت بغديدا بتسمية «أم الكنائس السبع» حتى تاريخها الحديث. وهذه الكنائس كان قد تقاسمها لاحقًا أتباعُ العقيدتين الكاثوليكية والأرثوذكسية بموجب إتفاقات ووثائق بين رئاساتهما في فترة الانشقاقات. ولا تخلو هذه البلدة من أديرة تاريخية ماتزال آثارُها قائمة وتستقبل الزائرين من مختلف مناطق ومدن العراق ومن خارجه، ومنها دير مار بهنام وسارة الواقع جنوب البلدة على بعد حوالي أربعة عشرة كيلومترات منها بالقرب من مدينة نمرود الآثارية، وآثار(خرائب) دير مار قرياقوس في محيط جنوب البلدة. وهذان الديران قد أصبحا من حصة الكاثوليك. إلى جانب دير مار ناقورتايا في شمال البلدة والذي أضحى من حصة الكنيسة الأرثوذكسية. ولعلَّ من أهمّ المناسبات التي تبقى في ذاكرة أهالي البلدة احتفالُهم بعيد السعانين (الأحد السابق لعيد القيامة في كلّ عام) حيث تشهد البلدة بأسرها تظاهرة دينية شعبية تطوف حول شوارعها بالصلوات والأدعية والترانيم الرخيمة للشمامسة وجوقات الكنائس والأخويات المختلفة حيث تظهر الأزياء الشعبية بجمالها من رجالٍ ونساء وفتية وفتيات وشيبٍ وشباب وأطفال يصرخون بأعلى اصواتهم» أوشعنا لابن داؤد».

 تسميات بغديدا

كما تشيرُ صفحات التاريخ، فقد تغيّر اسم هذه البلدة الآشورية القديمة من «بغديدا» إلى «قره قوش أو قراقوش» الذي يعني «الطير الأسود» بحسب البعض وذلك بفعل عامل السياسة حين استحلّها الأتراك العثمانيون. وهناك مَن يفسّر تسميتَها بكونها تعني «بيت الآلهة» من منطلق لفظها الآخر «باخديدا» المقتبسة من لفظة «بيث خوديدي»، عندما كانت مجوسية اي قبل أن تدخلها المسيحية. وربما تتقبل التسمية تعاريف أخرى وفقًا لقرائن ماتزال غير كافية لتحديد معاني تسمياتها المتعددة ومنها ما يتجاوز معناها الآخر المقصود به بكلمة «بغديدا» حصرًا والذي يعني «عطية الرب أو أعطى السيد»، كما يوردها ابنُها البار الباحث المجتهد الأب الدكتور «بهنام سوني» نقلاً عن نصوص سريانية وكرشونية وعربية وأجنبية من بداية القرن السابع إلى نهاية القرن التاسع عشر في أحد مؤلفاته المهمة، وكذا ما نقله نظيرُه المربي الفاضل الراحل «عبدالمسيح المدرّس» في ذات المعنى. ولا يخلو تاريخُها من حملات استهدفت سكانَها بسبب موقعها، كما أسلفنا، وذلك من جهات في بلاد فارس الطامعة دومًا بالعراق ومدنه وأهلِه. كما كانت محطةً لنقل البريد العثماني لفتراتٍ من الزمن عندما ارتبط مصيرُها بهذه الإمبراطورية في أحقاب مديدة، ما يشيرُ لتلاقح القوميات والثقافات فيها من دون أن يؤثّر ذلك في خصوصياتهم المسيحية واللغوية سواءً في تحدّثهم السريانية الدارجة المحكية (السورث) في البيت والشارع أو في أصالة اللغة السريانية (الآرامية) التي حافظت عليها كنائسُها وقسسُها وأهلُها في طقوسهم الكنسية لغاية اليوم سواءً في الصلوات الفروضية اليومية والمناسبات أو في نقلها للأجيال، كما يحصل اليوم بهمّة الغيارى وسط إقبال كبير من أهلها وبدعم من رجالات الكنيسة وجهود الساندين لهذه الحملة بتشجيع تعلّم لغة الآباء والأجداد وعدم السماح بموتها أو نسيانها. لهؤلاء جميعًا ولمركز مار بولص للخدمات الكنسية العائد لأبرشية الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك الذي يقوم بهذه المهمة إلى جانب مهامّ أخرى كثيرة، كلّ التقدير والاحترام.

سياسة النظام

حديثًا في سبعينيات القرن الماضي تحديدًا، تعرّضت البلدة إلى تغيير في تسميتها من قبل النظام السابق بعد تدرّجها إلى صفة قضاء، حيث سُميت ب»الحمدانية» تماشيًا مع سياسة النظام في تغيير المسميات التاريخية إلى أخرى تستهدف محو الماضي وطي صفحاته وتهميش الإرث والثقافة واللغة للمجتمعات غير العربية. كما عمل النظام السابق لاختراق خصوصيتها المسيحية بتوزيع قطع أراضي سكنية لغير ساكنيها الأصليين في محاولة لتغيير ديمغرافيتها وخصوصيتها العراقية المسيحية الصرفة.

كان للبلدة كذلك، كما لعموم مدينة الموصل وبلداتها، موعدٌ مع دمارٍ أشدّ ممّا فعله هولاكو وجنودُه عندما سيطرت عليها تنظيمات الدولة الإسلامية في آب 2014 بفعل تقاعس الحكومة آنذاك وتآمر جهات متهمة بتسليم ثلث البلاد بيد تنظيم إرهابي تحت أنظار الغازي الأمريكي ووكلائه في المنطقة، ما اضطرّ ساكنيها لهجر بيوتهم وممتلكاتهم والنزوح سواءً إلى كردستان القريبة منها التي آوتهم برحابة صدر أو إلى العاصمة بغداد ومدن أخرى، تمهيدًا لترك أرض الوطن وبدء هجرة مرعبة وقاسية نحو بلدان الشتات. إنّ هذه الجريمة تتحمّل مسؤوليتَها الحكومة العراقية وإدارتُها حينذاك ومَن أتى بها وبشخوصها غير الأمناء على ظهور دبابات المحتلّ الأمريكي وأتباعه من دول الغرب الظالم وفق منهج وسياسة وتخطيط محكم ستكشفه السنوات القوادم عندما يحين وقت الحساب. ولن يكون بعيدًا!

يد الإعمار على قدمٍ وساق، ولكن!

بعد تحرير البلدة وعموم قصبات وقرى سهل نينوى في عام 2017م إثر اجتياحها من قبل تنظيم الدولة الإسلام عام 2014م، عاد البعض من سكان هذه البلدة مثل غيرهم، لكنهم مازالوا ينتظرون المزيد من الاستقرار والطمأنينية بالرغم ممّا لاقته من دعم خارجي ملحوظ في إعادة ترميم ما دمّره التنظيم وسلب الممتلكات وحرق الدور والكنائس والمساكن ونهبها بأبشع الطرق. أمّا دورُ الحكومة في تعويض المتضررين، فقد كان مخجلاً حقًا ولا يرتقي إلى مستوى الدمار الذي تعرّضت له هذه البلدة وموقعُها وناسُها الطيبون مثل نظيراتها في عموم سهل نينوى. ولعلَّ ما منحها هي والبلدات والقرى المحيطة بها وعموم العراقيين الطيبين شيئًا من الأمل والرجاء بغدٍ أفضل، تلك الزيارة التي تقدّست وتباركت بها مدينة الموصل وبلدة بغديدا- قره قوش بالذات في عام 2021، عندما زارها بابا الفاتيكان «فرنسيس» والتي تُعدُّ أول زيارة لحبرٍ روماني في التاريخ لم تحظى بها نينوى والعراق من قبل. ومذ ذاك، ويدُ الإعمار بدأت همتَّها في عموم المحافظة ولم تهدأ لغاية الساعة، حيث حظيت بلدة «بغديدا» بقسطٍ طيبٍ منه في إعادة البنية التحتية وتطوير الأحياء المهملة فيها من التي تأثرت بفعل التدمير الهائل الذي طالها مثل غيرها من بلدات نينوى على يد تنظيم الدولة الإسلامية المدمّر الحاقد.

 كما أنّ يدَ الإعمار هذه بدت واضحة مؤخرًا في ترميم وشقّ ورصف الشوارع وسط الأحياء القديمة والجديدة التي كانت محرومة أصلاً منذ سنوات. وهذا حصل ويحصل بهمّة الإدارة السابقة للمحافظة والحالية التي أولت أهمية خاصة لهذه البلدة لتميّزها في الكثير من المهام والسلوكيات والاستعدادات وطريقة العيش بسبب واقعها الديمغرافي والديني الذي يشير بكونها البلدة السريانية المسيحية الأكثر عددًا وتحضّرًا وتمدّنًا من غيرها في عموم البلاد. كما تبدو جهود الإدارة المحلية في القضاء واضحةً في إبراز حاجة البلدة والقرى المحيط بها إلى جميع الخدمات البلدية الغائبة منذ فترة طويلة والتي تفتقر إليها جميعًا بحجة النقص الكبير في الكادر الخدمي الذي يعاني منه قضاء الحمدانية تحديدًا. وهذه دعوة صارخة من مواطني القضاء إلى الجهات المعنية في الحكومة العراقية والوزارات وإدارة المحافظة ومجلسها والوجهاء والجهات الحزبية التي تهيمن عليه وعموم المحافظة للالتفات لهذه الحاجة وسدّ النقص القائم بكادر هندسي وخدمي يليق بأهميته الطوبوغرافية والسياسية والدينية والإتنية. فماتزال المساحات العديدة المخصصة كحدائق عامة ومشروع الساقية القديمة تشكو الإهمال بسبب عدم اتخاذ ما يلزم لمتابعة هذه الخدمات ومنها مشروع المجاري المتلكّئ غير المعالَج لغاية الساعة بحجة النقص القائم في الكادر البلدي.

طوبوغرافية بلدة بغديدا

يبلغ تعداد سكان بغديدا/ قره قوش حاليًا ما يربو على 25 ألف نسمة إذا حسبنا أنّ نسبةً متقاربةً لهم قد غادروها إلى بلدان الشتات، وربّما من غير رجعة. وبالرغم من الألم الذي تركه مَن هجروا أرض الاباء والأجداد، إلاّ أنّ الحنين إلى تراب البلدة وكنائسها وأزقتها ولهجتها السريانية يسكنُ في طيات أحاسيسهم كلّما تذكروا سالف الأيام. وهذا واضحٌ في عودة العديد منهم لزيارة مَن تبقى من الأهل وأفراد العائلة في المناسبات الدينية والكنسية وفي أوقات العطلات التي يحظى بها الكثيرون. أمّا التفكير في العودة إلى حضنها، فلا يزالُ غائبًا بل مشروعًا مؤجلاً في فكر وكيان وشعور غالبية الذين هجروها لأسبابٍ عديدة ومنها بطبيعة الحال حالة الفوضى السياسية في البلد منذ السقوط تحت دبابات الاحتلال الأمريكي الغاشم وبسبب سطوة أحزاب السلطة وميليشياتها وذيول الغزاة الجدد على مقدّرات البلاد، ما يدعو إلى النأي بهذه العودة لصعوبة التأقلم ثانيةً مع حالة عدم الاستقرار بسبب شكل المنظومة السياسية الفاشلة وعدم وضوح الرؤية الوطنية في حسابات الحكومات المتعاقبة وفشل هذه الأخيرة في فرض القانون الذي سطت عليه أحزاب السلطة وفق نهجها اللصوصي والطائفي والإتني والديني والمذهبي. فحالة التهميش ماتزالُ قائمة وباقية وواضحة وضوح الشمس، ما لا يسمح لحاملي سمة المواطنة الصادقة والمنادين بحرية الرأي والفكر والتعبير أن يعيشوا بسلام وطمأنينة وسط الفوضى السياسية الحالية. وطالما بقيت البلاد تُدار من منظومة سياسية تتخذ من المحاصصة هدفًا وسلوكًا وأداة للحكم الديني والطائفي والمذهبي بعيدًا عن سمة الانتماء الحقيقي للوطن وأهله الأصلاء، فلا فائدة مرجوة من العيش بكرامة في مثل هذا الوسط الفاسد الموغل في التعسّف واللصوصية ونهب ثروات البلاد وفق نهج تحاصصي تخادمي بين أحزاب السلطة التي تستقوي بميليشيات وعصابات ومافيات تحرص على إدامة حكم البلاد بهذه الأيدي القذرة وغير الوطنية ومن خارج الحدود.

ادارة الحكم

أمّا فيما يخصّ الوضع السياسي في هذه البلدة، فهو ربما قد لا يختلف عن غيره ممّا يجري ويحصل في مدن وقرى تابعة لمحافظات أخرى أُبتليت في شكل إدارة الحكم تبعًا للجهة التي تسيطر على مقاليد الأمور وتتحكم في إدارة الموارد وتوجيه المشاريع وفق مصالح الأحزاب والكتل التي تتحكم في تلك المحافظة، تمامًا كما هي الحال في شكل أسلوب إدارة مختلف الوزارات في البلاد. ولعلّ ما يختلف في هذه البلدة من موجبات حلّ بعض إشكاليات السكن والمتعلقة بأصول وقواعد خصوصيات التسجيل العقاري، ما بقي مشكلةً قائمة منذ سنوات ولغاية الساعة بسبب هجمة شرسة من جهاتٍ متنفذة دخيلة على المجتمع الباغديدي - القره قوشي» تسعى لاختراق ممتلكات أهالي البلدة والتجاوز عل أراضيها بحجة التعايش السلمي والحرية في البيع والشراء المحظورة من قبل الرئاسات الدينية  فيها والوجهاء والعقلاء من أهالي البلدة وسكانها الأصلاء.

ونحن نعتقد أنَّ من حقّ أهالي البلدة عدم السماح لجهات دخيلة باختراق هذا المانع الذي يُعتبر جدار الصدّ بل من ضرورات المحافظة على ديمغرافية هذه البلدة المسيحية المتميّزة في كلّ شيء وعلى سائر خصوصياتها، في الدين واللغة والسلوك الاجتماعي والعادات والتراث والمناسبات وطريقة العيش المتمدّن المختلف تمامًا عن سائر بلدات وقصبات وقرى محافظة نينوى وسائر المحافظات العراقية الأخرى. ومَن تسنى له زيارة مركز قضاء الحمدانية (قره قوش- بغديدا)، سيشهد لهذا التميّز في كلّ جوانبه ويتمنى السكنى فيها بلا ريب.

 

وهذا ما تسعى إليه جهات دخيلة على المجتمع الباغديدي- القره قوشي أن تصل إليه حثيثًا بكل قواها ونفوذها وأطماعها وسط معارضة أهالي البلدة بكلّ شدّة حفاظًا على هذه الخصوصية. وهذه دعوة للجهات المعنية في الدولة العراقية والحكومة والوزارات المقصودة باتخاذ خطوات سريعة وجادة لحلّ هذه الإشكالية بطرقٍ تشريعية توفيقية ضمن إدارات وحدود بلديات المناطق المجاورة لها باستحداث وحدات إدارية جديدة لحلّ المشكلة بغية عدم السماح بكسر هذه الرغبة الشديدة لأهالي البلدة التي تُعتبر أكبر تجمّع مسيحيّ في العراق له خصوصياتُه ومحظوراتُه ودوافعُه المسيحية والوطنية للحفاظ على كيانه ووجوده وضمان بقائه صلبًا ومقاوِمًا لأية تجاوزات بحقّه وإنهاء هذا الملفّ الشائك في تثبيت حقّ مواطني البلدة حفاظًا على شكل هذه الخصوصية. فهُم ومَن تبقى من أمثالهم من مسيحيّي العراق كانوا ومازالوا ملحَ أرضه الخصبة. وفي غيابهم وتناقصهم سيكون العراق هو الخاسر الأكبر!

في الختام أقول، لمزيدٍ من الحرص والرغبة والحق في الحفاظ على خصوصيات جميع البلدات المتميزة في سهل نينوى ومنها بلدة «بغديدا» خاصةً، دينيًا وإتنيًا واجتماعيًا، أدعو ساسة البلاد وزعماء الأحزاب المعنيين للتخفيف عن ضغوطاتهم غير المبرّرة لصالح استقرار مجتمع هذه البلدة العراقية المسيحية المتميزة ومثلها ما يعودُ لسائر المجتمعات النظيرة الأخرى في محافظة نينوى بخصوصياتها جميعًا وصيانة حرية ناسها في اختيار ممثليهم في الدولة ومؤسساتها وفقًا للكفاءة والجدارة والعلمية في الإدارة والسلطة وليس وفق فروضات مصلحية وحزبية ضيقة. كما أدعو الحكومة ومجلس النواب وكلّ مَن له ضمير وطنيّ حيّ وشعور إنساني أن يُنصفوا أهالي ضحايا فاجعة «قاعة الموت» البالغ عددهم 134 شخصًا والتي تصادف هذه الأيام ذكراها السنوية الأولى في 26 أيلول 2023، وذلك احترامًا لأحبائهم وفلذات الأكباد الذين فقدوهم في غفلةٍ من الزمن القاسي بسبب أوجه الإهمال والتغاضي والتجاهل من أطرافٍ عديدة، وذلك كزءٍ من مواساة أهالي البلدة وتعزيز ثقتهم بغدٍ وطنيّ أفضل وحقوق عادلة في ظلّ المساواة والعدالة الاجتماعية دون تمييز. فمهما كانت النوايا والخفايا خلف كواليس تلك المأساة الإنسانية ومهما حصل بشأنها وحولها من جدلٍ بصددها، إلاّ أنّ الحياة لا تتوقف بل تستمرُ في ظلّ نعمة النسيان التي أنعم بها الخالق على خليقته البشرية الضعيفة. وبأخذ هذه جميعًا في الحسبان وبنظر الاعتبار تقييمًا وتقويمًا، ستكون جميع الأطراف محلَّ تقدير واحترام وكرامة في أوساط هذه المجتمعات وسادتها ورجال دينها من العقلاء فيهم من أولئك المطلوب منهم بالمقابل أيضًا مزيدًا من الاستعداد في التعاون مع الجهات الإدارية الحاكمة مهما اختلفت الآراء وتنوعت التوجهات دون تقاطع المصالح العليا لصالح المجتمع الباغديدي المسيحي والنينوي بعمومه. ففي المحبة وباستغلال الحكمة ووجود الرغبة في الحوار والنقاش العلمي والمنطقي والتسامح والتنازل عن المطامع الضيقة تكمن حريةُ المواطنة الصحيحة وتختلط هذه مع رغبة الحاكم العادل والإداري الناجح الذي لن تحكمه حينها سوى المصلحة العليا للوطن والمدينة وناسها وأهلها الأصلاء.


مشاهدات 176
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2024/10/03 - 2:59 AM
آخر تحديث 2024/10/05 - 8:36 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 402 الشهر 2121 الكلي 10031844
الوقت الآن
السبت 2024/10/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير