أذن وعين
عن دونكيشوت وسرفانتس
عبد اللطيف السعدون
تستعيد الأوساط الثقافية في الأقطار الناطقة بالإسبانية في كل عام ذكرى ولادة ميغيل سرفانتس صاحب ملحمة “دون كيشوت” في 29 أيلول/ سبتمبر 1547، وأتذكر أنني قرأت ملحمته في طبعة مختصرة، وأنا صغير، وظلت شخصية بطله مرسومة في ذهني وهو يقاتل طواحين الهواء، ويغامر في مواجهتها كأي عملاق يقارع العالم المحيط به ويصارعه، ومع مرور الزمن أصبحت أغبطه على لعبته العبثية هذه، وعندما كبرت عرفت عنه الكثير، وقد أدركته الحكمة من مقارعة طواحين الهواء في أواخر عمره، ولم يتمكن من أن ينتفع منها اذ كان الموت قد أودى به بعد أن كتب السطر الأخير من ملحمته الخالدة، ولم يقدر له أن يكتشف كيف أحتفى العالم بها بعد سنين، وكيف تحول بطله الى «أيقونة» ينظر اليها الناس ليتأملوا سيرة الفارس الجوال الذي يتنقل بين طواحين الهواء والمدن الشريرة، وهو يخوض معركة غير متكافئة، وكل همه البحث عن العدل والحب والأمان.
خصوم سرفانتس لم يجدوا في ملحمته غير مزح كبيرة، وحماقات متناثرة في ألف صفحة، ولم يروا في بطله سوى رجل أحمق، تعلم الفروسية من الكتب، وأحرقها انتقاما أو غرورا، وفي لحظة جنون ارتدى لباس الفارس، وحمل سيفه الصدئ، وزوادة متاع قليل، وركب حصانه الهزيل ليبدأ جولة مشوار لا نهاية له، وزعم بعضهم أن الرواية، بصفحاتها الألف، احتوت حفنة ألعاب عبثية وضعت في إطارات وقوالب فجة، وصيغت بعض فصولها على نحو لا يناسب ذائقة العصر، لكن سرفانتس لم يرد على هذه الترهات، ولم يسألهم عن سر هذا التحامل الذي لم يجد مبررا له، انما كان يحلم أن روايته ستعمر لمئات السنين، وأن الملايين سوف يقرؤونها، وسيكون بينهم قادة وزعماء ومفكرون، كي يتعلموا منها الحكمة.
علامات الإنشاء
وقيل ان فيليب الثالث الذي حكم بلاده بدايات القرن السابع عشر كان واقفا مرة على شرفة قصره عندما شاهد شابا مستلقيا على العشب، عند بوابة القصر، ومنكبا على قراءة كتاب يضعه بين يديه، وقد اثار استغرابه توقف الشاب عن القراءة بين هنيهة وأخرى، مقهقها مرة، ضاحكا مرة، وعلامات الانتشاء والغبطة بادية عليه، في حينها قال: « هذا الشاب أدركته الحكمة، وهو اما أن يكون مجنونا، أو أن يكون الكتاب الذي بين يدبه هو مغامرات دون كيشوت»!
وحكاية أخرى من عصرنا أن زعيم فنزويلا الراحل هوغو تشافيز سن تقليدا في القارة اللاتينية للاحتفاء بملحمة «دون كيشوت» في مهرجان سنوي تقرا فيه الملحمة على مسامع الناس وتستعاد.
ونحن، قراء الملحمة العرب، غمرنا شعور بالانتشاء والغبطة عندما قيل لنا أن سرفانتس أخذ الحكمة من كاتب عربي متخيل اسمه «سيدي حامد بن الأيل»، وقيل لنا أيضا أن ثمة شبها بين سرفانتس نفسه زيد الهلالي، أو هو يشبهك، ونعرفه أن في تغريبته متنقلا بين مدن الأندلس تعرف الى الكثير من حكاياتنا، كما ذاق بعضا من مراراتنا عندما قدر له أن يسجن، في مدينة من مدننا، في واحدة من الخطايا التي ارتكبتها الأزمان الرديئة بحقه.
ما يجمعنا بسرفانتس أكثر أن «دون كيشوت» أصبح واحدا من رموزنا، ونحن نقارع الظلم في مدننا، ونصارع الطغيان، ونقاوم غزاة بيوتنا وسارقي ثرواتنا، وهذا ما قاله شاعرنا الراحل ممدوح عدوان، وهو يخاطب سرفانتس:
«في هذا الزمن القاحل، نحن الفرسان، ماذا ظل من الفرسان بعصر تحسب أرباح العزة فيه كما تحسب أرباح الدكان، ماذا ظل على الفرسان سوى الريش على أجساد طواويس السلطان، من ظل سوى من صاروا جبروت الطغيان».
يضيف عدوان أن ما يمكن أن نتعلمه من تلك الملحمة هو أن تنهض من جديد، ونقاتل طواحين الهواء، اذ لم يبق سوى الأعداء، وأن نشهر سيوفنا ونضرب حيث نشاء، وفي أي مكان تستقر الضربة فهناك الأعداء.