الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬23‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬23‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

بعد‭ ‬يومين‭ ‬من‭ ‬مكوث‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬في‭ ‬مدينته‭ ‬المقدَّسة،‭ ‬رنَّ‭ ‬هاتف‭ ‬المنزل‭ ‬ظهراً‭ ‬لترد‭ ‬والدته‭ ‬العليلة‭ ‬على‭ ‬المكالمة،‭ ‬كان‭ ‬المتحدِّث‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬وطلب‭ ‬منها‭ ‬ضرورة‭ ‬حضور‭ ‬ولدها‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬الأديب‭ ‬علي‭ ‬الفتَّال‭ ‬الكائنة‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الرابعة‭ ‬عصراً،‭ ‬ذهب‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بالموعد‭ ‬المحدد‭ ‬وقد‭ ‬كرع‭ ‬كأساً‭ ‬ثقيلةً‭ ‬من‭ ‬العرق‭ ‬يستنهض‭ ‬به‭ ‬شجاعته‭ ‬لهذا‭ ‬اللقاء‭ ‬المبُهم؛‭ ‬مضغ‭ ‬حبَّات‭ ‬الهيل‭ ‬لإزالة‭ ‬رائحة‭ ‬الخمر‭ ‬عن‭ ‬فمه‭ ‬وهناك‭ ‬كان‭ ‬بانتظاره‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬الذي‭ ‬قدَّم‭ ‬نفسه‭: ‬

‭- ‬ملازم‭ ‬أمن‭ ‬حامد‭ ‬الجبوري‭. ‬

‭- ‬تشرَّفنا‭.‬

طلب‭ ‬هويته‭ ‬ليتأكد‭ ‬أنَّ‭ ‬الذي‭ ‬حضر‭ ‬هو‭ ‬صديق‭ ‬الغجري؛‭ ‬وبرفقٍ‭ ‬مفتعل‭ ‬أخذ‭ ‬بيده‭ ‬وانطلقا‭ ‬يسيران‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬العباس،‭ ‬ثم‭ ‬توقَّف‭ ‬به‭ ‬قرب‭ ‬سيارة‭ ‬حديثة‭ ‬ليأمره‭ ‬بحزم‭:‬

‭- ‬هيَّا‭ ‬اركب‭.‬

جلس‭ ‬على‭ ‬المقعد‭ ‬الأمامي؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬قلبه‭ ‬يسقط‭ ‬بين‭ ‬أحضانه‭ ‬من‭ ‬الرعب،‭ ‬انطلقت‭ ‬السيارة‭ ‬ليخبره‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭:‬

‭- ‬هناك‭ ‬جهات‭ ‬أمنية‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬طلبت‭ ‬معلومات‭ ‬تفصيلية‭ ‬عنك‭.‬

‭- ‬أنا‭ ‬حاضر‭.‬

فتح‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭ ‬آلة‭ ‬تسجيل‭ ‬صغيرة‭ ‬وانهمرت‭ ‬الأسئلة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬صديق‭ ‬الغجري؛‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬سؤالاً؛‭ ‬كانت‭ ‬تتعلَّق‭ ‬بعائلته‭ ‬ونشأتها‭ ‬وأقربائه‭ ‬ومن‭ ‬هرب‭ ‬منهم‭ ‬خارج‭ ‬البلاد‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬عائلته‭ ‬من‭ ‬المعدومين‭ ‬ثم‭ ‬سأله‭ ‬بشكل‭ ‬استفزازي‭ ‬وبدون‭ ‬لياقة‭: ‬

‭- ‬أمك‭ ‬من‭ ‬عشائر‭ ‬بني‭ ‬تميم؛‭ ‬فلماذا‭ ‬اقترنت‭ ‬بأبيك‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬عائلة‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬هندية؟

‭- ‬قسمتها‭ ‬يا‭ ‬أخي؛‭ ‬كما‭ ‬أنَّ‭ ‬عائلة‭ ‬النوّاب‭ ‬تنتمي‭ ‬بجذورها‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬عربية‭. ‬

‭- ‬كيف؟

‭- ‬نحن‭ ‬ننتمي‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬المجاب؛‭ ‬ابن‭ ‬الإمام‭ ‬الكاظم‭.‬

‭- ‬تقصد‭ ‬أنكم‭ ‬من‭ ‬السادة؟

‭- ‬أجل‭. ‬

‭- ‬هذه‭ ‬مشكلة‭ ‬أخرى؛‭ ‬سنعاود‭ ‬الاتصال‭ ‬بك‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استجدَّ‭ ‬أي‭ ‬شي‭ ‬يستدعي‭ ‬حضورك‭.‬

توقَّفتْ‭ ‬المركبة‭ ‬بغتةً‭ ‬لينطق‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭ ‬بلهجةٍ‭ ‬متهكمةٍ‭:‬

‭- ‬انزل‭ ‬أيها‭ ‬الشاعر‭.‬

بعد‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الاستجواب؛‭ ‬حضر‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أمسيةً‭ ‬لشاعر‭ ‬غنائي‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬المدينة،‭ ‬كانت‭ ‬الأمسية‭ ‬تبدو‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬طرحها‭ ‬وتتحدث‭ ‬عن‭ ‬القصيدة‭ ‬النورسية‭ ‬التي‭ ‬تمزج‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭ ‬والفصيح،‭ ‬وهناك‭ ‬فوجئ‭ ‬بوجود‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭ ‬الذي‭ ‬استجوبه،‭ ‬لما‭ ‬حانت‭ ‬فرصة‭ ‬التعليق‭ ‬عن‭ ‬الأمسية‭ ‬انتهز‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الفرصة‭ ‬وأبدى‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬بالقصيدة‭ ‬النورسية؛‭ ‬وكان‭ ‬يرمي‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬ما‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬ثقافي‭ ‬في‭ ‬مدينته،‭ ‬فلربما‭ ‬الأيام‭ ‬القادمة‭ ‬ستشهد‭ ‬تحقيقاً‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬معهُ‭. ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الأمسية‭ ‬اقترب‭ ‬منهُ‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬وصافحه‭ ‬باهتمام‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬

‭- ‬كانت‭ ‬الفكرة‭ ‬برأسي‭ ‬عنكَ‭ ‬غير‭ ‬ذلك؛‭ ‬لكنها‭ ‬اتَّضحتْ‭ ‬الآن‭.‬

اكتفى‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بالصمت‭ ‬وغادره‭ ‬قلقاً،‭ ‬ليقرر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬لاستئناف‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬والمنام‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أخته،‭ ‬لكنَّ‭ ‬قدميّه‭ ‬حين‭ ‬وطأت‭ ‬أرض‭ ‬العاصمة‭ ‬وجدها‭ ‬تنطلق‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي،‭ ‬لا‭ ‬تسأل‭ ‬الصعلوك‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬مسالكهُ؟‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬رغبة‭ ‬لمعرفة‭ ‬آخر‭ ‬الأخبار‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬التمرُّد‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬والذي‭ ‬وصلت‭ ‬شظاياه‭ ‬الأمنية‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬المقدَّسة‭. ‬بعد‭ ‬جلوسه‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬وكان‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬الشاعرين‭ ‬عبد‭ ‬العظيم‭ ‬فنجان‭ ‬وستار‭ ‬موزان؛‭ ‬وإذا‭ ‬بوسام‭ ‬هاشم‭ ‬يدخل‭ ‬المقهى‭ ‬وقد‭ ‬أوقف‭ ‬سيارة‭ ‬تابعة‭ ‬لجريدة‭ ‬ابن‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬المقهى؛‭ ‬ضارباً‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬نظام‭ ‬المرور‭ ‬ليقترب‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬الغجري؛‭ ‬قال‭ ‬موبِّخاً‭:‬

‭- ‬جنونك‭ ‬هذا‭ ‬سيقودك‭ ‬إلى‭ ‬هاويةٍ‭ ‬خطيرةٍ‭.‬

لمح‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬جهازاً‭ ‬صغيراً‭ ‬مُعلَّقاً‭ ‬بحزام‭ ‬وسام؛‭ ‬فسألهُ‭ ‬بمكر‭: ‬

‭- ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الفيته‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬بحزامك؟

لم‭ ‬يجد‭ ‬تشبيهاً‭ ‬لجهاز‭ ‬الاتصال‭ ‬ذلك‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬الفيته‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬آلة‭ ‬صغيرة‭ ‬لقياس‭ ‬المسافات؛‭ ‬احتقنت‭ ‬أوردة‭ ‬عنق‭ ‬وسام‭ ‬ليخبره‭ ‬حانقاً‭:‬

‭- ‬تسخر‭ ‬حضرتك؛‭ ‬اسمعني‭ ‬جيداً،‭ ‬الأستاذ‭ ‬عباس‭ ‬الجنابي‭ ‬سكرتير‭ ‬الأستاذ؛‭ ‬طلب‭ ‬حضورك‭ ‬الساعة‭ ‬الخامسة‭ ‬عصراً‭ ‬إلى‭ ‬تلفزيون‭ ‬الشباب‭.‬

‭- ‬وما‭ ‬علاقة‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬بتلفزيون‭ ‬الشباب؟

‭- ‬كِفَّ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬السخيفة،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تحضر‭ ‬في‭ ‬الموعد‭ ‬الذي‭ ‬أبلغتك‭ ‬عنهُ؛‭ ‬سنعرض‭ ‬صورتكَ‭ ‬في‭ ‬تلفزيون‭ ‬الشباب‭ ‬وسيُلقى‭ ‬القبض‭ ‬عليك؛‭ ‬هل‭ ‬فهمت؟‭ ‬مع‭ ‬السلامة‭.‬

غادر‭ ‬وسام‭ ‬المقهى‭ ‬تاركاً‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بقلقٍ‭ ‬وحيرةٍ‭. ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬موزان‭ ‬وفنجان‭ ‬وسألهما‭ ‬بصوت‭ ‬مرتبك‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬تقبلان‭ ‬بذلك؟‭ ‬أهذا‭ ‬صديق‭ ‬أم‭ ‬شرطي‭ ‬بالله‭ ‬عليكما؟

‭  ‬علقَّ‭ ‬عبد‭ ‬العظيم‭ ‬فنجان‭: ‬

‭- ‬وسام‭ ‬طيِّب‭ ‬ويحبك‭.‬

أردف‭ ‬ستار‭ ‬موزان‭ ‬قائلاً‭: ‬

‭- ‬لقد‭ ‬وضعتَ‭ ‬الجميع‭ ‬بموقف‭ ‬حرج‭.‬

‭- ‬كيف؟

‭- ‬يقول‭ ‬كيف؟‭ ‬تمردك‭ ‬قبل‭ ‬أسبوع‭ ‬في‭ ‬النادي‭ ‬وصلت‭ ‬أخباره‭ ‬إلى‭ ‬عدي؛‭ ‬وقد‭ ‬أصدر‭ ‬الاتحاد‭ ‬قراراً‭ ‬بمنعك‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬النادي‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين؛‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تقلق‭ ‬لن‭ ‬ندعك‭ ‬وحدك‭.‬

شعر‭ ‬أنَّ‭ ‬كلام‭ ‬جبر‭ ‬الخواطر‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يبلسم‭ ‬الجرح‭ ‬النازف‭ ‬بروحه،‭ ‬كان‭ ‬يتمنى‭ ‬رؤية‭ ‬صديقه‭ ‬جان‭ ‬دمُّو‭ ‬حتى‭ ‬يسمع‭ ‬نصحائه،‭ ‬فهو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬لوح‭ ‬نجاة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬الأولمبي‭.   ‬يتبع‭…‬

 


مشاهدات 158
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/07/29 - 3:35 PM
آخر تحديث 2024/08/07 - 12:07 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 288 الشهر 2718 الكلي 9978262
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير