حسن النواب
بعد يومين من مكوث صديق الغجري في مدينته المقدَّسة، رنَّ هاتف المنزل ظهراً لترد والدته العليلة على المكالمة، كان المتحدِّث أحد رجال الأمن وطلب منها ضرورة حضور ولدها إلى مكتبة الأديب علي الفتَّال الكائنة وسط المدينة في الساعة الرابعة عصراً، ذهب صديق الغجري بالموعد المحدد وقد كرع كأساً ثقيلةً من العرق يستنهض به شجاعته لهذا اللقاء المبُهم؛ مضغ حبَّات الهيل لإزالة رائحة الخمر عن فمه وهناك كان بانتظاره رجل الأمن الذي قدَّم نفسه:
- ملازم أمن حامد الجبوري.
- تشرَّفنا.
طلب هويته ليتأكد أنَّ الذي حضر هو صديق الغجري؛ وبرفقٍ مفتعل أخذ بيده وانطلقا يسيران في شارع العباس، ثم توقَّف به قرب سيارة حديثة ليأمره بحزم:
- هيَّا اركب.
جلس على المقعد الأمامي؛ كأنَّ قلبه يسقط بين أحضانه من الرعب، انطلقت السيارة ليخبره ضابط الأمن:
- هناك جهات أمنية من بغداد طلبت معلومات تفصيلية عنك.
- أنا حاضر.
فتح ضابط الأمن آلة تسجيل صغيرة وانهمرت الأسئلة على رأس صديق الغجري؛ أكثر من عشرين سؤالاً؛ كانت تتعلَّق بعائلته ونشأتها وأقربائه ومن هرب منهم خارج البلاد وهل هناك في عائلته من المعدومين ثم سأله بشكل استفزازي وبدون لياقة:
- أمك من عشائر بني تميم؛ فلماذا اقترنت بأبيك الذي يعود نسبه إلى عائلة من أصول هندية؟
- قسمتها يا أخي؛ كما أنَّ عائلة النوّاب تنتمي بجذورها إلى أصول عربية.
- كيف؟
- نحن ننتمي إلى شجرة سيدنا إبراهيم المجاب؛ ابن الإمام الكاظم.
- تقصد أنكم من السادة؟
- أجل.
- هذه مشكلة أخرى؛ سنعاود الاتصال بك إذا ما استجدَّ أي شي يستدعي حضورك.
توقَّفتْ المركبة بغتةً لينطق ضابط الأمن بلهجةٍ متهكمةٍ:
- انزل أيها الشاعر.
بعد يوم من ذلك الاستجواب؛ حضر صديق الغجري أمسيةً لشاعر غنائي من أهالي المدينة، كانت الأمسية تبدو جديدة في طرحها وتتحدث عن القصيدة النورسية التي تمزج ما بين الشعر الشعبي والفصيح، وهناك فوجئ بوجود ضابط الأمن الذي استجوبه، لما حانت فرصة التعليق عن الأمسية انتهز صديق الغجري الفرصة وأبدى وجهة نظره بالقصيدة النورسية؛ وكان يرمي من وراء ذلك إلى وضع رجل الأمن أمام صورة ما يتمتع به من حضور ثقافي في مدينته، فلربما الأيام القادمة ستشهد تحقيقاً من نوع آخر معهُ. بعد انتهاء الأمسية اقترب منهُ رجل الأمن وصافحه باهتمام ثم قال:
- كانت الفكرة برأسي عنكَ غير ذلك؛ لكنها اتَّضحتْ الآن.
اكتفى صديق الغجري بالصمت وغادره قلقاً، ليقرر العودة إلى بغداد لاستئناف عمله في جريدة العراق والمنام في بيت أخته، لكنَّ قدميّه حين وطأت أرض العاصمة وجدها تنطلق إلى مقهى حسن عجمي، لا تسأل الصعلوك إلى أين مسالكهُ؟ كانت لديه رغبة لمعرفة آخر الأخبار عن ذلك التمرُّد الذي قام به في نادي الأدباء والذي وصلت شظاياه الأمنية إلى مدينته المقدَّسة. بعد جلوسه في المقهى وكان إلى جواره الشاعرين عبد العظيم فنجان وستار موزان؛ وإذا بوسام هاشم يدخل المقهى وقد أوقف سيارة تابعة لجريدة ابن الرئيس في باب المقهى؛ ضارباً عرض الحائط نظام المرور ليقترب من صديق الغجري؛ قال موبِّخاً:
- جنونك هذا سيقودك إلى هاويةٍ خطيرةٍ.
لمح صديق الغجري جهازاً صغيراً مُعلَّقاً بحزام وسام؛ فسألهُ بمكر:
- ما هذه «الفيته» التي تحملها بحزامك؟
لم يجد تشبيهاً لجهاز الاتصال ذلك سوى «الفيته» وهي عبارة عن آلة صغيرة لقياس المسافات؛ احتقنت أوردة عنق وسام ليخبره حانقاً:
- تسخر حضرتك؛ اسمعني جيداً، الأستاذ عباس الجنابي سكرتير الأستاذ؛ طلب حضورك الساعة الخامسة عصراً إلى تلفزيون الشباب.
- وما علاقة اتحاد الأدباء بتلفزيون الشباب؟
- كِفَّ عن هذه الأسئلة السخيفة، إذا لم تحضر في الموعد الذي أبلغتك عنهُ؛ سنعرض صورتكَ في تلفزيون الشباب وسيُلقى القبض عليك؛ هل فهمت؟ مع السلامة.
غادر وسام المقهى تاركاً صديق الغجري بقلقٍ وحيرةٍ. نظر إلى موزان وفنجان وسألهما بصوت مرتبك:
- هل تقبلان بذلك؟ أهذا صديق أم شرطي بالله عليكما؟
علقَّ عبد العظيم فنجان:
- وسام طيِّب ويحبك.
أردف ستار موزان قائلاً:
- لقد وضعتَ الجميع بموقف حرج.
- كيف؟
- يقول كيف؟ تمردك قبل أسبوع في النادي وصلت أخباره إلى عدي؛ وقد أصدر الاتحاد قراراً بمنعك من دخول النادي لمدة سنتين؛ لكن لا تقلق لن ندعك وحدك.
شعر أنَّ كلام جبر الخواطر هذا لا يبلسم الجرح النازف بروحه، كان يتمنى رؤية صديقه جان دمُّو حتى يسمع نصحائه، فهو الوحيد الذي يمكن أنْ يجد له لوح نجاة في هذا المأزق الأولمبي. يتبع…