الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
فن إرتياد المستقبل في السياق التكنولوجي

بواسطة azzaman

فن إرتياد المستقبل في السياق التكنولوجي

خالد المعيني

 

 لا شك أن الإرادة والعقل هي السلاح الذي بهما يشق الإنسان طريقه وسط غياهب المستقبل والمجهول,  والرغبة في سبر أغوار المستقبل واستقراءه بقيت فترة طويلة حلما وخيالا يراود الإنسان , فارتبطت في المراحل المبكرة بالأحلام والسحر والتنجيم .

    وكانت بناء على ذلك في العالم القديم تتخذ الكثير من القرارات وتبنى احتمالات وخيارات, الأمر الذي يفسر كثرة وسرعة الانتقالات العاصفة في تاريخ الشعوب وانهيار الكثير من الأمم بلا رحمة .

    الأمم التي صمدت وطاولت كانت الأمم القوية والتي حافظت على ديمومة عناصر قوتها وهذا الأمر لا يتحقق إلا بالوسائل العقلانية , تقف عدة عوامل خلف بروز هذا العلم كضرورة ملازمة ولكي نفهم كيفية التأثير على المستقبل وكيف نختاره علينا ابتداء أن ننطلق من  الفكرة التي تميز بين المستقبل كمستقبل والمستقبل عن كثب وبينهما فرق كبير,  ففي النظرة نحو المستقبل كمستقبل فان ذلك يتضمن العواطف الإنسانية العادية , أما النظر إلى المستقبل عن كثب فانه يعني الذهاب إلى هناك وفحص المستقبل المحتمل ( الفرضيات) ثم إعداد أنفسنا طبقا لذلك. إننا نتحدث عن أساليب لدراسة المستقبل بغرض تنظيم الحاضر والابتعاد عن تركه  للصدف والعمل بطريقة رد الفعل. وهي أساليب عاجزة عن توقع المستقبل بصورة كاملة ولكنها على الأقل قادرة على معرفة الأساليب التي نستطيع بها بناء المستقبل أو التأثير عليه على الأقل, وتقليص حجم الهامش غير المحسوب قد يقلب مسيرة ما رأسا على عقب.

    لقد أصبح التنبؤ والتوقع والرؤيا المستقبلية عنصرا ديناميكيا حاكما في التخطيط المعاصر , مثلا يمكن تصور إستراتيجية حديثة في حقل ما ليس لها وحدات وأجهزة ومراكز دراسات قوية تستشعر عن بعد وتستشف الاحتمالات غير المتوقعة بغرض تفادي اكبر كلفة من الخسائر.     فهل نستطيع استيلاد المستقبل والتحكم به؟ هذا العلم كفيل بفهم أفضل لحركة التاريخ واكتساب قدرة اكبر لفن المناورة من اجل الإمساك بأعنة المستقبل ولمجاراة التخطيط الاستراتيجي فان المستقبل يرتبط بمديات التخطيط المعروفة : ( المدى القريب, المدى المتوسط , المدى البعيد) .    إننا نستطيع بلا شك بناء المستقبل في كل لحظة من خلال تتابع قرارات وخطوات مدروسة ومترابطة عقلانيا, فاللحظة الحاضرة هي ليست برهة بل هي نضح متراكم من الماضي ( الماضي القريب + الماضي المتوسط + الماضي البعيد ) تجمعت في ساحة الحاضر ولا يمكن لأحد الادعاء أن الماضي يعيد بناء أحداث الحاضر ولكن بلا شك فان جذور الماضي تمتد إلى الحاضر بشكل أو بآخر , فالمستقبل هو ما يتم الإعلان عنه في الحاضر .

وعي تاريخي

    وفي مجتمعات ذات وعي تاريخي متخلف وغير عقلانية فإنها تحتمي كثقافة وتتقوقع في خنادق الماضي الذي يشكل أعمق ما فيه صورة مستقبلها لذا تجدها تستهلك جهدها وثقافتها في اجترار الماضي بنسبة90% ولا تعير المستقبل إلا الشئ البسيط, فالحل لا يكمن في العودة الموهومة وفق قوالب جامدة أكل الدهر عليها وشرب إلى ( عصر ذهبي ) أو عصر غيبي غير موجود تحقق في الماضي وإنما في بناء تدريجي للمستقبل عبر خطوات مدروسة وعصرية تعتمد على المنهج العلمي وليس الإفراط في الغيبية المطلقة والقدرية المطلقة  ، فلقد أصبح من المسلم به أن نسبة الانحراف في عصرنا الحالي عن جوهر فكرة الدين المحببة والتي ترتبط أساسا بالعلم والعقل الفضيلة باتت كبيرة جدا إلى حد تكبيل العقول وحولت الناس إلى عبيد للديماغوجية وقطعان مسلوبة الإرادة , إن المجتمع المدني المنشود لا يعيش غربة عن ماضيه وإنما يتصالح معه ويعيد تعريفه من خلال تبني مواقف شجاعة متدرجة ومدروسة لتهديم صروح التخلف وأصنام العبودية الجديدة بالارتكاز على القيم الايجابية في  ذلك الماضي وإهمال وإلغاء بل ومحاربة كل ما هو سلبي ويعيق الحركة إلى الأمام لا ينسجم مع جوهر الدين ولا يستجيب لمتطلبات العصر .

    إن الدعوة إلى ارتياد المستقبل لا تتنافى مع جوهر فكرة الدين ولكنها تسعى إلى شئ واحد هو قلب معادلة التفكير في الانشداد إلى المستقبل بدل الاجترار والدوران كليا في الماضي إن هذه الفكرة يمكن تبسيطها بالتعريف التالي :

( القدرة على تحريك وبناء واختيار الاحتمالات والخيارات المفيدة والمرغوب بها والتي تمثل احد أشكال المستقبل ومحاولة  تفادي واستبعاد أشكال المستقبل السلبية والمضرة وذلك من خلال الإمساك بالحاضر والتدرج في بناء المستقبل ).   بمعنى آخر اعتماد طريقة التخطيط والبناء المتدرج ثم قيم التنفيذ على مراحل مترابطة ومتناغمة قائمة على أسس صحيحة وليس العكس.

     ماذا إذا حاول مجتمع متخلف أن ينهي تحليقه نتيجة اليأس والإحباط من عالم الأحلام لينزل إلى ارض الواقع ما هي الوسيلة التي تمكنه من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية المعاصرة وان لا يكون حديقة خلفية للأمم القوية بل يكون في صدارتها .

مجموعة مصادفات

   تتطور الشعوب وتحدث فيها الانتقالات النوعية الكبرى من تاريخها عبر ثلاث مولدات (Generator):

-الأحداث والحروب والكوارث.

-تظافر مجموعة مصادفات.

-الثورات والاكتشافات التكنولوجية.

   وفي عصرنا الحالي لا يمكن الإمساك بالمستقبل وتعويض فجوة الزمن الضائع إلا عبر التكنولوجيا ليس بمعناها المادي ( الميكانيكي ) الذي اقترن طويلا بمفهوم التكنولوجيا وإنما تتم دراستها كظاهرة وسلوك من خلال تعيين الأبعاد السياسية والفكرية لهذه الظاهرة وهي كفيلة بحرق مراحل التخلف والاقتراب الى بعدها العقلاني. ففي سياق التطور التاريخي لظاهرة التكنولوجيا عبر تاريخها الطويل يمكن حصر عدة نقاط أساسية فاصلة كان كل منها في تاريخ  المجتمعات البشرية بمثابة ( ثورة) غيرت جذريا من أسلوب هذه المجتمعات مع بيئتها المادية والاجتماعية والسياسية ونقلتها مراحل إلى مستقبل أكثر قوة .

 اثبت المتغير التكنولوجي من خلال الدور المتزايد الذي لعبه في شتى ميادين الحياة ومن خلال تفاعله مع جميع عناصر القوة الثابتة والمتحركة أنه دافع مؤثر وفعال في الإفصاح عن محتوى جديد للقوة وخلقه لآليات وأنماط خاصة به مما أزاح وحيد وضاعف وأضعف الكثير من عناصر ومرتكزات مفهوم القوة التقليدية.

 تأتي خصائص كل مرحلة من مراحل تطور التكنولوجيا على أعتاب المرحلة التي تسبقها حاملة معها ثقافة (مفاهيم) جديدة وتولد أنماط كما ولدت المرحلة الصناعية ثقافة ومفاهيم مختلفة عن المرحلة التي تقدمت عليها وهكذا تولد أجيال التكنولوجيا الجديدة علوماً ودولاً وسياسات وظواهر جديدة ولكنها أيضا تولد حروباً بإشكال جديدة . باتت القدرة التكنولوجية من أهم معايير القوة من خلال دورها الحاسم في أحداث التغير الشامل، فالتكنولوجيا من خلال حافاتها الأمامية شأنها شأن الثروات الطبيعية ليست موزعة على العالم بالتساوي فقليل من البلدان قادرة على ابتكارها . كما إن السرعة التي تتم فيها التغيرات التكنولوجية في شتى الميادين مسألة أخذت تعيد ترتيب كثير من المعادلات والمسلمات وتضع أثقالا جديدة في ميزان القوة وتجعل منها سلاحا للمنافسة والاندفاع إلى المستقبل في القرن الواحد والعشرين من اجل النفوذ وبلوغ أعلى مراتب القوة.

 مدير مركز دجلة للدراسات والتخطيط الإستراتيجي


مشاهدات 127
الكاتب خالد المعيني
أضيف 2024/07/28 - 3:53 PM
آخر تحديث 2024/08/07 - 7:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 165 الشهر 2595 الكلي 9978139
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير