فرنسا: أزمة أختيار رئيس الوزراء تهدد الجمهورية الخامسة
باريس - سعد المسعودي
ثلاث كتل نيابية تتنازع لتشكيل الكتلة النيابية الأكبر التي تقود لأختيار رئيس الحكومة المقبل حيث تشهد فرنسا مناورات كبيرة ، في بلد غير معتاد على تشكيل ائتلافات حكومية في ظل نظام انتخابي كان يولّد حتى الآن غالبية برلمانية.
والجمعية الوطنية التي تتكون من 577 مقعدا، مقسومة بصورة رئيسية حاليا بين الجبهة الشعبية الجديدة (تحالف يساري 195 مقعدا)، يليها المعسكر الرئاسي (وسط اليمين، حوالى 160 مقعدا)، ثم التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاؤه (143 مقعدا).
ويتعين على أي حكومة الحصول على تأييد ما لا يقل عن 289 نائبا، لتكون محصنة ضد مذكرة بحجب الثقة يمكن أن تطيح بها.
ازمة حكم
ويصل الأمر بالكثير من المعنيين والمراقبين للتحذير من أن “ الجمهورية الخامسة مهددة بالسقوط” نتيجة أزمة حكم بنيوية تواجه فرنسا بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أسفرت عن برلمان معلق من دون أكثرية
هكذا، ارتسم مأزق سياسي في البلاد بسبب تداعيات حل الجمعية الوطنية الذي قرره الرئيس ماكرون، والذي لم يعدل ميزان القوى السياسي كما راهن سيد الاليزيه وبدلاً من حل الأزمة السياسية الكامنة منذ انتخابات 2022 ، تفاقمت الأمور لان نتيجة انتخابات 2024 أفرزت مشهدا سياسيا تعدديا ومشتتاً تتجاذبه ثلاث كتل رئيسية ليس من السهولة ايجاد توافق بين بعضها يتيح تشكيل اغلبية مستقرة بعد الاختراق غير المسبوق الذي حققه التجمع الوطني وحلفاؤه في الجولة الأولى، قلبت آليات “الجبهة الجمهورية” الطاولة بواسطة نظام الاقتراع الأكثري من دورتين الذي اتاح نسج تحالفات وإنتاج ديناميكية جديدة في الجولة الثانية مع حلول “الجبهة الشعبية الجديدة” في المقدمة متفوقة على الائتلاف الرئاسي تحت راية تكتل “ معاً” الذي حل ثانياً ، والتجمع الوطني وحلفائه الذي أتى ثالثاً هذا الوضع ليس استثنائياً على صعيد اقليمي، اذ أن وجود برلمان منقسم ليس بالامر الغريب في أوروبا، إلا أن فرنسا بالذات لم تشهد برلماناً منقسماً بهذا الشكل في تاريخها الحديث. وهذا ما يمهّد الطريق لمفاوضات متوترة لتشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيس وزراء، ستكون مهمته التركيز على السياسة الداخلية وتقاسم السلطة مع الرئيس لم يظهر أي مرشح واضح حتى الآن. وفي حين يمكن لماكرون أن يطرح اسمًا، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى دعم أغلبية برلمانية وذلك بعد أن جاءت كتلته في المرتبة الثانية في الانتخابات المبكرة التي دعا إليها, وهو ما وضعه في إحراج كبير أمام ناخبيه ومنتقديه
وبعد يومين على الاستحقاق، خاطب الرئيس الفرنسي مواطنيه انطلاقاً من واشنطن حيث يشارك في قمة حلف شمال الأطلسي ، محيلاً المسؤولية على القوى السياسية داعياً اياها إلى بناء غالبية صلبة تكون بالضرورة ذات تعددية , لكنه ركز ضمناً على القوى المؤمنة بالدفاع عن “مؤسسات الجمهورية ودولة القانون والحكم البرلماني وفي هذا غمز من قناة القوى المتشددة بيد ان الوضع يبدو مغلقاً وسينتظر على الارجح ما بعد الألعاب الاولمبية ليبدأ العمل لإيجاد مخرج في الخلاصة، ادى قرار ماكرون إلى إضعاف السلطة الرئاسية وتعزيز الانقسامات الحزبية، وأدى حل الجمعية الوطنية إلى خلق الظروف لنشوء أزمة كبرى في النظام. ويواكب ذلك قلق عميق من مخاطر صعود التطرف وعدم كبح جماحه وتراجع دور فرنسا الأوروبي والعالمي.
انسحابات بالجملة
وما ساهم في هذا الوضع غير المعتاد في فرنسا هو قيام “الجبهة الجمهورية” التي تشكلت في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية، حين بدا اليمين المتطرف على أبواب السلطة.
وفي هذا السياق، انسحب أكثر من 200 مرشح من معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون ومن اليسار لصالح مرشحين لديهم حظوظ أكبر في قطع الطريق على التجمع الوطني، وفق إستراتيجية ناجحة أعطت نتائج خالفت كل التوقعات.
وأن الناخبين قالوا في جزء ما يريدون، وفي جزء آخر ما لا يريدون لكن هذا في نهاية المطاف لا يعطي تفويضا لأي طرف كان.
وتعتزم الجبهة الوطنية الجديدة المؤلفة من تحالف فرنسا الأبية (يسار راديكالي) والاشتراكيين والشيوعيين والبيئيين، الإمساك بالحكم، لكنها لا تملك عددا كافيا من المقاعد.
كما أن وجود فرنسا الأبية في صفوفها ومنهمرئيس الحزب ميلينشان يطرح مشكلة بسبب مواقف للحزب اعتبرت معادية للسامية ولا سيما في سياق دفاعه عن القضية الفلسطينية بعد هجوم حركة حماس غير المسبوق على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب المدمرة التي تلته في قطاع غزة.
ويثير زعيم الحزب نفسه جان لوك ميلانشون انقسامات وهو مرفوض من العديدين حتى في صفوف اليسار نفسه.
وتنظم الانتخابات التشريعية في فرنسا عادة في امتداد الانتخابات الرئاسية، بحيث يمنح الناخبون الرئيس الجديد غالبية واضحة تسمح له بممارسة الحكم.
وخلافا لدول أوروبية أخرى مثل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا تعتمد نظام النسبية في الانتخابات ما يقود إلى برلمان من توجهات مختلفة، تنتخب الجمعية الوطنية الفرنسية بالنظام الأكثريّ في دورتين.
وعملا بهذا النظام، يفوز المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في الدورة الثانية، ما كان مؤاتيا لفترة طويلة لمشهد سياسي مؤلف من كتلتين يسارية ويمينية، قبل بروز الوسطيين الماكرونيين وصعود اليمين المتطرف.
ويشير اعضاء هذا التكتل اليساري بأنهم ليس معتادين في فرنسا على تشكيل ائتلاف ,و جميع الدول تقريبا تعرف كيف تفعل ذلك، لكننا نحن لا نعرف، معتبرين أن فرنسا تدخل حاليا “المجهول” لعدم امتلاكها “البرمجيات” السياسية المجدية.
و”ينبغي الخروج قليلا من الاستعراض والمعهود والأزقة الإيديولوجية، و أن نقول: الفرنسيون أرادوا ذلك، ما الذي يمكننا القيام به لتلبية مطالبهم؟»
ولم تسمح استطلاعات الرأي التي نشرت نتائجها هذا الأسبوع بتوضيح الوضع. وأن غالبية المستطلعين عبر استطلاعات الرأي , غير مقتنعين بأي من الفرضيات الرئيسية لتشكيل حكومة، سواء من اليسار وحده أو ائتلاف من اليسار ووسط اليمين أو تحالف بين الوسط واليمين واليسار.
وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد أودوكسا أن 43% فقط من الفرنسيين يؤيدون تشكيل ائتلاف حين يكون أي بديل لذلك مستحيلا.
مأزق الأحزاب
تبدو الأحزاب في مأزق، ويسعى قادتها لتصفية الشركاء المحتملين أكثر مما يحاولون إيجاد أرضية مشتركة. وفي هذا السياق من المناورات، قلما تم التطرق إلى البرامج السياسية بحد ذاتها.
وبعدما دعا بنفسه في التاسع من حزيران/يونيو إلى الانتخابات التشريعية المبكرة مع قراره حل الجمعية الوطنية في أعقاب هزيمة حزبه في الانتخابات الأوروبية، دعا ماكرون الأربعاء “القوى السياسية الجمهورية” إلى “بناء غالبية متينة».
وأسف الرئيس الجمعة لـ”مشهد كارثي” في معسكره نفسه الذي يجد صعوبة في توحيد صفوفه خلف رئيس الحكومة المستقيل غابريال أتال.
وفي اليسار، تعجز فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي عن التفاهم على اسم يمكن طرحه لتولي رئاسة الحكومة.
أما في اليمين، فأعلن الجمهوريون الذين قد يعود لهم دور صانعي الملوك مع المقاعد الأربعين التي فازوا بها في الجمعية الوطنية، أنهم لا يريدون “لا ائتلاف ولا مساومة».
ومن المحتمل أن تستفيد زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن من الفوضى المخيمة حاليا للوصول إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية عام 2027.
ففي إيطاليا، أرغمت أزمة سياسية كبرى عام 2021 الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي على تشكيل حكومة وحدة وطنية. وبعد أقل من سنتين، وصلت زعيمة اليمين المتطرف جورجيا ميلوني إلى السلطة.