الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ديوان قرابين الوداع للشاعر عبد الله باشراحيل

بواسطة azzaman

ديوان قرابين الوداع للشاعر عبد الله باشراحيل

المقدمة النثرية لروح الشعر والكتاب

نعيم عبد مهلهل

 

يُولد الشِّعر عندما يُولد الضوء في قلب صاحبه، ومتى أصبح الضوء أكثر بريقًا، أتت المُلهِمات وهنَّ يَطِرن في فضاء الخيال ملائكةً لإلهام روح الشاعر في محاولته لخلق عالم آخر غير العوالم التي يعرفها الآخرون، وهو يدركُ تمامًا أن الموهبة هي منحة السماء إلى قلبه ليكون نبضه مُستلهِمًا لما يشعره ويستشعره، حتى تأتيه تلك الأحاسيس التي يَستعرض فيها قُدرته على البَوح في نَظْم الشعر وأدعيته في أول الصباح وفي قيلولة الظهيرة أو بعد صلاة التراويح.

يكتب الشاعر لأنه روحاني ويشعر أن بأجفانه يتلقَّى ضوء النظر فيرى فيه ما سيُناديه من بهجةِ ما يُبدعه، وقديمًا كان الشاعر العربي يَألف ما يراه بمخالفة الرؤية؛ فتصير الصحاري وخيامها حدائقَ غنَّاء، فيكتبها كما يشعرها لا كما يراها، فأتت تلك المشاعر في صورة المديح الكبير للتصوُّرات أولًا. وعليه فإن الإغريق كانوا يعتقدون أن الشِّعر مِن نَظْم الآلهة، ثم وهبَتْه هديةً ومِنحة إلى البشر ليتلوه ويكتبوه نيابةً عنهم.

كل هذا أستقدِمُه مقدمة لمقدمة كتبها الشاعر السعودي الكبير في أولى صفحات ديوانه (قرابين الوداع) والصادر حديثًا عن دار كتابي للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة.

ومتى تقرأ المقدمة بعناوينها المتعددة تشعر أنك أمام دروس لتجربة الحياة، ليس الأدبية فقط، بل الحياة بتنوُّع مَشاربها ومحطاتها وتجاربها وثمارها وذكرياتها. ويبدو أنها كُتبت بفطنة وقصد وحكمة لتكون بابًا للولوج إلى عالَم الشعر في هذا الكتاب، أو لنَقُل إنها مُشفَّرة لفَكِّ طلاسم ورموز وغايات القصائد، ليس للقارئ فقط، وإنما للدارس أيضًا لتجربة هذا الشاعر الثري لغةً وتصويرًا ومعنًى. حتى إنك تشعر أن تلك المقدمة هي كلمة السر لهذا البَوح الشعري المتَّسع الرؤَى والأخيلة والأدعية والمدائح، وصدى صوت أحلام الرجل المؤمن بما وهب وقدم وأبدع؛ لتكون مكة استشراقًا واستشرافًا ومهابةً لمهد ولادته فيها، فكان يعطيها ولا يتعب، ويحبها ولا يتوقف لحظة عن التعبير عن هذا الحب، وربما بسبب هذا الحب أنتج لنا هذا التراث الرائع من المدونات الشعرية دواوينَ، والنثر المفكر والقارئ كتبًا. وأصبح بمقدور مَن يبحث عن مكة في حداثتها الثقافية ومجدها الأدبي المعاصر أن يذهب ليقرأ عبد الله باشراحيل أولًا.. فينال من سياحة التجوال في هذا الثراء الضخم لمؤلفاته مَن يتمنَّى أن يستزيد، فهو شاعرٌ لبهجة الروح في مودَّتها وبهاء الحب فيها، وهو شاعر لوطنية الانتماء إلى بلده ودولته العَليَّة مَلِكًا ومملكةً ووليَّ عهد، وهو شاعر الإيمان الروحاني تديُّنًا وورعًا في اقتداء النص إليه بفضاءات مناسك الدين ورحاب الملهمين فيه رب مكة والنبي العظيم محمد وآله الطيِّبين الأطهار وصحابته البَرَرة، وهناك في التجربة والنتاج الهائل للشاعر عبد الله محمد باشراحيل أغراض متعدِّدة اللون والمقاصد؛ حتى يشعرك أنه شاعرٌ كونيٌّ مهمَّته في هذا العالم مسك شعلة النور وإيقاظ الضوء في كل ظلمة.

لكنه في المقدمة النثرية المثيرة التي تتقدم ديوانه الشعري (قرابين الوداع) يكتب سيرته الروحية عبر فضاءات تتعدَّد ألوانها وعناوين القصائد ومتغيِّراته التي أبدع بها وفق منهج روحي وأخلاقي واجتماعي وبلاغي ليصير الديوان مديحًا إنسانيًّا وكونيًّا ووطنيًّا ودينيًّا، وفي المُحصِّلة فإن المقدمة إنما هي باب من أبنوس وصندل إن فتحته دخلت إلى عالم عبد الله باشراحيل الشعري وسبحت في نشوة القراءة التي لا يمكن أن تكتمل دون أن تعيد قراءة مقدمة الديوان الذي أهداه متبركًا باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنه يريد من النور المحمدي أن يغسل برذاذ مطر البركة كلَّ قصائد الديوان، ثم يذهب هذا المطر ببركته المحمدية إلى روح والدَيِ الشاعرِ (الأم والأب) اللذَيْن أورثاه كما يكتب في الإهداء (التُّقَى والفضل والنسبا). وبين بركة النبي ورحمة الأبوين تنهال أمطار الإهداء ببريقٍ من حسن الكلمات إلى حنين أجمل ذكريات الشاعر ودهشة محطات حياته، مكة وكعبتها ليختم الأهواء بصدى أناشيد ذلك الوجدان الإلهي الذي ما يحلو الشعر إلا عندما يغشى قوافي النشيد بنوره عندما يقول في عذوبة ما أهدى:

لِكَعبَةِ اللهِ نُورِ الأَرْضِ قَاطِبَةً

لِأَرضِ مَكَّة أَرضِي أَنْشُرُ الأَدَبَا

هذه المقدمة بظلال أفياء ما تجود لنا به وهي مبوبة عبر إرهاصات الشاعر مع نفسه وبيته وديوانه المجتمعي. ومدينتُه بالخصوص هي بيان مفتوح يُدلي فيه الشاعر ما سكنه لحظةَ البدء بتجميع قصائده الجديدة، ولأول مرة أراه يضع مقدمة تُفسِّر مُبتغَى النشر وتُقرب للقارئ الروحانيات التي قد لا نجدها في قراءة عابرة لشعر باشراحيل، لأكتشف أنه بدون المقدمة واستيعابها لا يمكن أن نقرأ الديوان ونعيش متعة صدى الكلام فيه وبلاغة إحساس الشاعر في تنقُّلات العناوين وأغراضها، فهو كالذي يُشيِّد مدائنَ للبَوح من أجل ابتكار عاطفة إنسانية، والمقدمة تمهِّد تمامًا للتمتُّع بكشوفات وأناشيد هذه العاطفة التي سجَّلها عبد الله باشراحيل عبر عدد كبير من النصوص الشعرية بعددٍ ضخمٍ هو (249) نصًّا شعريًّا، وكل النصوص التي ستُدرس بعد سياحة الجمال في مشاعر المقدمة التي حرص الشاعر لتكون نافذةً لكل أناشيد روحه، وكل عناوين النصوص هي تنويعات روحية سكنَتْها إيقاعات حداثة الشعر وخواطر الزمن المكي الذي عاشه الشاعر وأهله من آل باشراحيل لتكون القصائد على كثرتها أيقونات تختلف في رؤيتها وإيقاعها واحدة عن الأخرى.

ومع محطات المقدمة التي يمكن أن نعتبرها بوابةً أو منصَّة استشرافية لروح الديوان القائمة على ركائز تنوُّعية للهاجس الإنساني والتي سيتم دراستها وفق الأبواب التالية التي كما أظن وأنا أستشرف فهرست الديوان الشعري (قرابين الوداع): (الوجدانية، العائلية، الوطنية، الأمكنة، الروحانيات، الدينية، القومية العروبية، المراثي، التأريخ والعشيرة، الصوفية، المكية والنبوية، مناسبات ومحطات الحياة) وقد نجد أغراضًا أخرى كثيرة ذلك لأن العناوين هي كمن يرحل في طرقات العالم سائحًا ومتأمِّلًا وذا بصيرة لرؤى التأليف والإلهام والموهبة، وكأنه في ثراء اللحظة الشعرية يريد أن يُبقي أزل الشعلة الروحية التي تضيء في دواخله وتتحول إلى قصائد، لتكون هاديةً ودرس حب واجتهاد وإيمان لأبنائه وأحفاده ومن بعدهم.

لهذا كانت المقدمة مفتاحًا للحظة الشعرية والتنبيه إلى حدائق الشعر التي تأتي إلينا بفيض من جمال روح وطلاسم ملوَّنة لهاجس الحياة ومحطَّاتها وتنوُّعات مشاغلها مع رجل اختبرته ظروف الحياة وأدرك الآخرون في علاقتهم معه أنهم لا يعيشون مع رجل أعمال وعلم، وإنما يعيشون مع موهبة فكرية وإنسانية أدركت حكمتها من توارث عريق لسلالة خير وتقوى وفكر، والتي انتمت إلى كندة العربية، وكان فيها آل باشراحيل عضوًا فعَّالًا في فخر الانتماء رجولةً ومكانةً وفكرًا وإبداعًا وخيرًا.

هذا الخير تُكلِّله عناوين المُنجزات لرجل متى قرأت في تأريخ العائلة تجده متميزًا، ولا مديح في هذا زائد عن حدِّه، فلقد قرأت أغلب نتاج الشاعر عبد الله محمد باشراحيل لأجده في هذا الثراء الأدبي والفكري والثقافي والحضاري أيضًا إنما خلفه موهبة ربانية كان امتلاكها كما يشعرنا هو نعمة السماء عليه، ونعمة مكة، ونعمة حنان وتربية أبويه وكل أهل بيته ومن علَّموه في المدرسة، ومن كانوا رفقته في مشارب الحياة من أصدقاء حارة ودرس ومحطات سفر.

وكل تلك المحطات مكَّنته ليكون فارسَ قصيدة ومجتهدًا في وعي التفكير برؤيته العلمية والإنسانية والأدبية والفكرية؛ لهذا في أولى صفحات الكتاب وهو يقدم لقارئه ديوانه (قرابين الوداع)، ولا أظنه خلاصة لجهد إبداعي عاش في روح وجسد وذاكرة الشاعر لعشرات السنين فقط، وإنما هو استكمال لما يكتبه وسيكتبه، وبالرغم من هذا فهو مُدرك بوعيٍ لقَدَريَّة الحياة، وبإيمان وقوة وثقة بالبقاء والأمل الإنساني الذي يسكن مبدعين كهذا، يكتب ودون أي هاجس خوف وقلق وبثقة أنه: «وإذا كنت اليوم على مشارف الرحيل إلى عالم التحوُّل لأبدية الصمت فذلك يوجب علي ألا أغادر صغيرةً ولا كبيرةً من إلهامي إلا وقد أحصيتها في كتب مبيَّنة، لتكون قبسًا يُضئ ديجور النفوس المظلمة، وإعلاءً وارتقاءً بالفكر الإنساني في جهادٍ تطاوَلَ عهدُه وأمَدُه، وقد استحقب عمري، وأوقف نفسي على الحق والحب والجمال قائلًا وعاملًا على ما يرتفع بالإنسان في كل مكان على بلوغ ذُرَى القِيَم النبيلة في النفس البشرية التي تتنازع أمرها بين الخير وبين الشر».

هذا التعبير البلاغي والقَدَري، والذي يُمسك نور الحياة بأنامل واثقة وشاعرة ومتفائلة، يرينا حجم ثراء المشاعر وجمالية البَوح والاندماج والنظرة إلى العالم ليس من خلال النصيحة وإنما قراءة متأنية للنفس البشرية التي تأتي فيه كلمات الشاعر عبد الله باشراحيل كما في بيان شعري يُتلَى مقدمةً لما سيُدوِّنه في إيقاعات القوافي وتعدُّد الرؤى والعناوين، لكنك في ذات الوقت تعيش تحت سلطة بلاغة اللغة وتفكيرها وإرهاصات نبض قلبها، فتشعر أنه أدعية مكتوبة بلغة عالية الأداء، ومستغفرة بالدعاء، وواثقة بقناعة ما تأتي به الحياة، فكان على الشاعر أن يرينا قناعته ورؤيته وما في أعماق قلبه. وتلك القناعة ذهبت لتكون تنظيرًا واعيًا وقراءةً متأنيةً ليس في ثقافة الشاعر وإنما في ثقافة الأمكنة التي ينتمي إليها؛ ليظهر لنا في تلك القراءة ثقافة الكتب وما تعلَّمناه منها، وما ألهمنا به عالمنا الروحاني الذي انتمى الشاعر إليه، وانتمى الكثير منا ملوَّنًا بإيقاعات الرؤية الصحية والفكر العميق لكتاب الله الكريم وما أتى به الأنبياء والرسل «فمن ذلك الغِلِّ الذي نظرته على الزمان والمكان جاء الأنبياء والرسل والصالحون، وجاء الشعراء والأدباء والمفكرون والفلاسفة والعلماء، وإنهم لم يأتوا عبثًا فهم مِن أهم مكوِّنات غرس الفضل والفضيلة».

هذا الغرس هو ما تظهره لنا روح قصائد الديوان ومعانيه، فما بين الظهر والمتن يسجل كتاب الشعر (قرابين الوداع) أنطولوجيا لتواريخ قلب الشاعر، فأيًّا كانت مسافة النص في الكتاب طويلة أم قصيرة إنما هي متساوية في جمالية البَوح وصِدق مشاعر الشاعر حين استشعرها وأتت من أعماق فؤاده عبر موهبة وحرفة وإجادة في حسن ما يريد أن يقوله شعرًا ونثرًا ودرسًا.

كانت المقدمة التي تصلح لتكون بحثًا استشرافيًّا لمقدمات كتبها الشاعر عبر تواريخ منتجه الأدبي والفكري، ولكن هنا في (قرابين الوداع) هي عصارة لجهد سنوات طويلة من عمر منتج ومثمر ومضيء، والعنوان ظنه البعض أنه ربما إحساس بأن العمر هو وأحكامه علينا أن نقبل بقَدَريَّته عن طِيب خاطر، إلا أنك ما إن تراجع العناوين وتقرأ ما تقع عليه عيناك قبل القراءة المنهجية والجمالية للديوان، حتى تشعر أن الحياة ومستقبلها وآمالها الكبيرة تتحوَّل إلى شموس، ونجوم، وأقمار، وشموع، ومصابيح، تضيء بالأمل والحب وقداسات بهجة الجُمَل العميقة، تضيء بهجة العالم الذي يضعه الشاعر أمامنا قرَّاءً وأحبابًا ومُريدين ومعجبين وأهلا وأصدقاء ومن ينتمي إليهم ولاءً وقبيلةً ومحبةً.

هذا البدء هو رسائل تعبيرية واضحة القصد والهدف، والمراد منها تقريب روح الديوان إلى روح القارئ؛ لتشعر أن روحًا يسكنها الإلهام مثل روح الشاعر الدكتور عبد الله باشراحيل لهي قادرة على صُنع توازنات البَوح بين الأحلام والواقع، وبين الهاجس والإحساس وبين الفنتازيا والواقع.

لكنه في المحصِّلة بدءٌ سحري يذهب بك إلى أنهر القصائد في الديوان وحدائقها، ويجعلك تُمازج بين خواطر الشاعر في تواريخ حياته وبين ما تجود وتفيض عنده موهبة الشعر التي هي حتمًا منحة من العُلا، أن يمتلك الإنسان موهبةَ النظمِ والتأليف ونسج الكلمات في صور الدهشة والتصور والإحساس بما يسكنه وبمن حوله، وهي كما يراها الشاعر الدكتور عبد الله باشراحيل واحدة من أهم مهمات الشاعر ورسائله إلى العالم، ومنها سيستحق أوسمة التقدير، من العامة من الناس، والمؤسسات الرسمية، ومن يقرأ هذا النتاج المصنوع بالموهبة والعصامية وخليطهما معًا.

فكريًّا تندرج تلك المقدمة الطويلة والمبوبة بسبعة نوافذ، كل نافذة تحمل رؤى تتسلسل فيها النظرة إلى الحياة، ولكن كل تلك النوافذ ترتبط بفلسفة واحدة اعتمدها عبد الله باشراحيل في كل محطات حياته الأسرية والتجارية والأدبية والروحية أيضًا. حتى تشعر أن رجلًا بهذه المقدرة العالية للموازنة بين الأدب وإدارة الأعمال تحتاج إلى طقوس خاصة، وفق مبدأ هذا لا يشبه ذاك، ولكنك حين تُجالس الدكتور باشراحيل كرجل أعمال وتُجالسه كرجل فكر وشاعر تكتشف أنك مع الإنسان نفسه، فلا تختلف الصورة معك وهو رجل أعمال، أو وهو أديب وشاعر.

وفي عودة للمقدمة في نافذتها الأولى التي هي في تقديري درس تربويٌّ وأخلاقي في اجتهاد الرجل بما عرف وتعلم وكتب، وأعرف أن أفكار هذه النافذة هي بعض من مهام الشاعر والمفكر في إصلاح العالم، وجعل تجربته إطارًا وفلسفةً لما يقتنع به هو، ولا يجبر القارئ لتبنِّي طروحاته، ولكنها في تفسير المضامين إنما هي رسالة مُشفَّرة لفئة من الناس أرادها أن تكون نافذته لإفهام القارئ أن ديوان (قرابين الوداع) ليست أشعارًا موزونةً وبسجع لسَماع ممتع، إنما هي رسالة وعي جمالي وُلدت من تجربة حياتية وقرائية طويلة وشاقَّة وممتعة، لكن حصيلة الدهشة والمتعة فيها هذا الكتاب وغيره من عشرات الكتب التي أنتجها الشاعر والأديب ورجل الأعمال الدكتور عبد الله محمد صالح باشراحيل.

هي نتاج الموهبة والتجربة ومحطات الحياة وكان من دروسها فيضٌ بهيٌّ من القناعة والإيمان والتعلم من تجارب الحياة، وهي تجارب لا تسلط ضوء أزمنتها على ديوانه الجديد وقرابينه فقط، بل هي نتاج هذا التراث الكبير لعشرات دواوين الشعر وكتب الفكر والأنشطة المجتمعية والأدبية والوطنية، تخلَّلها مواسم طيبة من المشاركات العولميَّة الأدبية، وتقلُّد أوسمة من رؤساء، وحضور مناقشات لرسائل دكتوراه، كلها تتحدث عن الجوانب الجمالية والبلاغية والشعرية في أدب الدكتور عبد الله محمد باشراحيل.

وسط تلك الحياة الغزيرة تظهر الأوراق الأولى من المقدمة ما يجعلنا نقف عند تواضُع الشاعر بالرغم من غزارة ما أنتج وكُتب عنه والتكريمات نراه في هاجس التوعية والتذكير والكتابة عن الذات البشرية ومتغيِّراتها وما لمسه عبر تجاربه في نظرته إلى البشر ومَن تعامل معهم، وبهدوء المؤمن يكتب رؤيته ضمن تجاربه في الحياة، وينظر للنفس البشرية من خلال ما تعلمه في تربية البيت والمدرسة ومخالطة عِليَة القوم ومعلميهم ومفكريهم، ونتج عن هذا رؤيته إلى طباع البعض عبر مفردة الغِل وتأثيرها في الأنفُس والقلوب والطِّباع البشرية.

 والغل في التعريف اللغوي تعني الحقد الكامن، عداوةً وضغينةً: «يجيش صدره عليَّ بالغِلّ- الغِلّ والحَسد يأكلان الحسنات- ويُريك الرِّضا والغِلُّ حَشْو ردائه... وقد تنطق العينان والفمُ ساكِنُ- {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، غَلَلْتُ، يَغِلُّ، اغْلِلْ/ غِلَّ، غِلًّا وغليلًا، فهو غالٌّ، غلَّ صدرُه: كان ذا غِشٍّ أو ضِغْنٍ أو حِقدٍ “غلَّ قلبُه”.

وإزاء هذا الهاجس الصعب الذي يورده باشراحيل في تفاصيل شرح روحاني واجتماعي إنما هو يحاول أن يُنبِّه إلى حقيقة أن الإنسان يحيَى بسلوك طيب من سيرته وببياض قلبه، ذل لأنَّ امتلاء القلب بظلمة النوايا والغِل إنما يجعلها قلوبًا سوداء، وأظن أنه أراد بهذه الشروحات والوصايا التي أخذت من المقدمة أسطرًا كثيرة هي بمثابة نوايا واستشعارات وتنبيه وإضاءة للجانب الذي هو من بعض الأمراض الاجتماعية والنفسية، وربما علاقته بكل حدائق الديوان وقصائده هو أن ما كُتب في (قرابين الوداع) هو دواء شافٍ لمثل هذا الغِل الذي اعتبر وجوده على الرغم من سوداويته أنه واحد من دوافع التنافس، وإن كان هو في الجهة الأخرى من الوضوح والرغبة في إبقاء الخير والجمال هما من بعض رسالة الحياة عنده في الإبداع والتأليف والحياة العملية، ويخبرنا هو في ذلك قوله:

«والغِل في مخلوقات الأرض على التحديد أهم دافع لعمرانها، فلولاها لَمَا خُلِق العملُ والتنافُس والطمع والعدوان، ولَمَا وُجِد الأعلى والأدنى والغني والفقير، ولولاه لكان الخلق سواسيةً لا يشعرون بالفَوقِيات والقدرات المتفاوتة، ولولاه لَمَا كان للحقد والحسد والكره وجودٌ، ولولاه لنام الخلق دون عناء».

هذه الشروحات والمقارنات هي صورة الوعي في النصيحة والتجربة ونتاج قراءة كتب وممارسات حياتية، وأما علاقته بالتدوينات الشعرية التي لوَّنت عطر نصوص ديوان (قرابين الوداع) إنما هي استشعار بأن النتاج الإبداعي عمل مُنجَز في معمار واختراع أو تأليف كتاب إنما هو خليقة القلوب التي تحب وليس القلوب التي تمتلئ بالغِل وتعيش حياتها على مراقبة نجاح الآخرين وتمنِّي فشلهم وموت تجاربهم الإبداعية.

وهكذا يدلو الرجل الشاعر بدلوه في صورة الحكمة والتجربة والقصيدة، ومتى دلفت إلى عالم الكتاب والسفر سياحةً في مُدُنه وفضاءاته وعناوينه ستجد أن النافذة الأولى في مقدمته مكتوبة لغرض له سببه ودافعه، وكأنه يؤكد أن الأمر الذي حدث دافعه (الغل) في خطيئة ولد أبينا آدم في قتل الأخ لأخيه إنما هي مَن أورثت فينا تلك التناقضات التي ربما هي من جعلت الصراع الأزلي بين الخير والشر قائمًا إلى اليوم، والشاعر هنا (باشراحيل) هو نزعة الخير أن هذا الديوان ليس سوى ثمرة من ثمرات هذا الخير. وأن الغل وإن كان فطرة التكوين كما يقول الشاعر في مقدمته، إنما هو جزء من الدافع في الخيرين للنظر إليه وإنجاز المعاكس لصفته ومشاعره، وربما النتاج الكبير لتراث هذا الشاعر المكي هو من بعض مداولاته لذلك المرض عند الكثيرين؛ ليجيء لنا بلوح من دُرَر ما يجود به القلب؛ ولنستشعر أن القصائد هي من فؤاد المحب والمبدع، وأنها كما يذكرها في واحدة من نصوص الكتاب سيرة ذاتية للزمن بجماله حتى لو كان ماضيًا قديمًا:

«ما زلت أرحل في الزمان الأول أتذكر العمر الجميل المخملي

 كان الندى والحب في أيامنا   كم كان عمرًا يزدهي بالأجمل»

هذه النافذة الأولَى من المقدمة، كُتبت برؤَى قلب الشاعر وفكره وقصيدته، وأظن أنها افتتاحة واعية ومثقفة وجميلة لنافذة الكتاب، وتليها نوافذ ستة تختلف فيها العناوين والمقاصد، ومن ثَم تأتيك قصائد الديوان التي عليك أن تُبحر فيها كما سندباد، لكننا آثرنا أن تكون تلك المُقدمات هي روح هذا الكتاب ومادته، لأن المقدمة المكتوبة بعناوين كثيرة إنما كتبها الشاعر عبد الله باشراحيل بقصدٍ هو أن يُهيِّئ لقارئه أجواء التمتُّع في الترحال بعناوين اقتربت من المئتين وخمسين نصًّا. هي في رؤيتها محطات لحياة الرجل وثمار من شجرة إلهامه، مدركًا أن حياته عندما تكون من غير شِعر سينقصها الكثير؛ لهذا رسمت له العناوين أفق الذهاب إلى محتوى ما يحتويه قلب الشاعر بعيدًا عن كل ما قد يُعكِّر الماء في صفائه، لهذا نبَّهنا من الغِل بالرغم من أنه أظهر فائدة فيه من أنه دافعٌ لتجنُّب المعاصي وصنع الجمال.

فتشعر أن (باشراحيل) الشاعر والإنسان هو صانع للجمال ولمرويات الحس في سرد المشاعر الروحية الكامنة في العميق من جنائن روحه، هاجسًا وقُدرةً وإبداعًا وقصيدةً. وكأنه في كل نَص يستعين بموهبة وهبة الرب العظيم ومالك الملوك:

«يا مالك الملك أنت الماجد الحكم في اللوح قدرت ما قد خطَّه القلم».

هذا التقدير في موهبته ومشاعر ومقدمة الديوان هو الإشارة المُضيئة والصريحة التي أراد فيها (شاعرنا) أن يوقد في أعماق قارئه رغبةَ القراءة والتمتُّع، فالديوان كما سنقرأه لاحقًا هو استشراف نحو آفاق مَخمليَّة وحياتية وروحية، وكأنه هنا من خلال جماليات النظم شاعرًا ومستشعرًا إنما يصنع لنا نصًّا تتزاحم فيه العناوين التي تشرب من أنهر الجمال والفصاحة وبليغ القول، هادئًا في التناول ومتأنِّيًا في الكتابة؛ حتى لتشعر أنك في لحظة قراءة المقدمة أنك ذاهب إلى عالم رجل لم تتوقف آماله عن هذا المجد الشعري في حدود السنوات السبعين من العمر، إنما الأشياء تتجدد فيه لخلق حركة ودينامكية متتابعة لصيرورة الشعر فيه؛ فيكتبه كأنه إنتاج جميل لحياة جديدة في يومه، ومكَّتِه، ومملكته، وبيته، ومقر عمله، ومحطات العالم التي يسافر إليها.

عالَم الشاعر عبد الله باشراحيل هو عالَم مرئيات اللغة ومعانيها التي أظهرته بوضوح الأوراق الأولى من تلك المقدمة الواعية والمُبصرة والحكيمة والشعرية أيضًا.


مشاهدات 996
الكاتب نعيم عبد مهلهل
أضيف 2024/07/13 - 12:31 AM
آخر تحديث 2025/05/08 - 12:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 447 الشهر 10395 الكلي 11004399
الوقت الآن
الجمعة 2025/5/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير