قراءة نقدية لقصيدة يعاتبني الشوق للشاعر رياض الدليمي .
نادية عوض
القصيدة نصّ شعريّ متخم بالوجدان والرمز الشيق واللغة المتوقدة، تمزج بين الشغف والعذاب، بين الحبّ كطقسٍ روحيّ، والعتب كحريقٍ داخليّ لا يهدأ. هي من النصوص التي تقف على تخوم العشق الصوفيّ، إذ تتحوّل العلاقة بين "الذات" و"الآخر" إلى حالةٍ من التطهّر عبر النار والدمع والحنين.
الفكرة الرئيسة والفكر الفلسفي
الفكرة الجوهرية في النص هي تحوّل الحب إلى فعل وجوديّ يتجاوز الجسد ليصبح تطهّرًا، وصراعًا بين الخطيئة والمغفرة، بين الاتهام والعشق.
الشاعر هنا لا يكتب عن العتاب العاطفي فحسب، بل عن الإنسان في لحظة انكشافه أمام جوهر الحبّ، حين يصبح العذاب طقسًا مقدسًا، والوصال شكلًا من أشكال الخلق.
إنه يواجه القدر والعشق والذات، ويحاور "الآخر" لا ليعاتبه فقط، بل ليجد في العتب خلاصًا من الاحتراق الداخليّ.
هذا الفكر الفلسفيّ يذكّر بمفهوم "الحبّ المطهِّر" عند المتصوفة، حيث تُستبدل المتعة بالمعاناة، ويغدو العشق دربًا نحو الفناء والسموّ في آنٍ واحد.
الرمزية
النص زاخر بالرموز التي تشكّل معمارَه الداخليّ:
"أضرحة العتب": رمزٌ للمشاعر الميتة أو المدفونة في القلب، كأنّ العتاب صار طقسًا جنائزيًا للحبّ.
"الوضوء بالدمع": رمزٌ للتطهّر العاطفي، وللقداسة التي تمنحها المعاناة.
"نواقيس البلوى": تشير إلى إعلان الألم، وكأنّ الوجع له صوتٌ مقدّس يُنذر بالبعث.
"حفيدة العتب": رمز للأنثى التي ورثت من أزمنة العشق مرارة الغياب، فهي امتدادٌ للوجع الإنساني.
"خارطة صلاتي بشفاهك": صورة لقداسة الحبّ، هنا يتحوّل إلى صلاةٍ على جسد المعشوقة، في تمازجٍ رمزيّ رائع بين العبادة والعشق.
هذه الرموز جميعها تنتمي إلى منظومة عشقٍ صوفيّ رمزيّ، حيث تتقاطع الروح بالمادة، والعذاب بالسموّ، والأنوثة بالقداسة.
اللغة والصور الشعرية
لغة النص لغة انيقة عالية التوهّج، متوترة بالانفعال، ومشبعة بالصور الحسية والروحية معًا.
من أمثلة الصور الشعرية اللافتة:
"يتوضأ بدمعه" — استعارة بديعة تحوّل الحزن إلى طقسٍ روحيّ.
"ويشهد العالمين على شرّر أنفاسي" — صورة نارٍ تنفجر من العشق، توحي بالاحتراق والفيض.
"لم أرسم أفلاك الشمس ولا مستقر رموشك على أصلابي" — صورة تمزج بين الخلق الكونيّ والتجربة العاطفية، في مجازٍ كثيف عن السيطرة الإلهية في الحبّ.
"اغفي في أحلامي لا يفزعك هياج نبضي" توحد بين الحلم والجسد، بين السكينة والعاصفة.
تقوم اللغة هنا على جدلية النور والنار، الطهر واللهب، العتاب والوصال، مما يمنح القصيدة عمقًا شعوريًا وشكلاً موسيقيًا خفيّا ينبض بالتوتر والحنين.
الجمال الفني
الجمال في النص ينبع من قدرته على تحويل التجربة العاطفية الفردية إلى تجربة إنسانية شمولية.
هو نصّ يجمع بين حرارة العاطفة ودقّة التعبير، بين الانفعال والوعي الجمالي.
كما أنّ التناغم بين الرموز الدينية والعاطفية، واستخدام مفردات مثل الوضوء، الصلاة، المعابد، الرضاب، الأسوار، يمنح القصيدة قداسة شعرية تجعل الحبّ أقرب إلى حالة "عبادة" كونية.
إضافة إلى ذلك، تمتاز القصيدة بإيقاعها الداخلي الناتج عن تكرار الحروف النارية ؛ الراء، العين، الصاد، مما يعزّز الإحساس بالاحتراق والوجد.
الختام
"يعاتبني الشوق" ليست مجرد قصيدة عتاب، بل رحلة روحية في معابد العشق، حيث يتطهّر الشاعر من ناره بالحبّ ذاته ...
هي نشيد الوجدان حين يتحوّل الوجع إلى صلاة، والأنثى إلى معبد، والدمع إلى ماءٍ مقدّس.
فيها جمال المعاناة وفتنة اللغة، وفي عمقها تسكن فكرة الخلاص عبر الاحتراق، كأنّ العشق آخر أشكال الخلق، وأول بوابات الفناء الجميل.
قصيدة تنبض بنارٍ مقدّسة، وتُبرّىء الحبّ من الخطيئة، لتجعله طريقًا إلى المعرفة والوجود.
بوركت أستاذنا وبورك اليراع الذي
يخط نبضات القلب بصدق وشفافية
القصيدة.يعاتبني الشوق
في كل أضرحة العتب
وحاشى قلبي إن أخطأ يوما
ولم يتوضأ بدمعه ..
يا قاطف العمر
صحراء .......... شغافي
كان قبلكم ..
ولم ينبض قلب كقلبي
حين لامس طيف الجسد
ويشهد العالمين
على شرّر أنفاسي ووجعي
ساعة الصفر
فلست من شرّع الوصل
لم اصنع نواقيس البلوى
لم ابتدع الوقت
لم ارسم أفلاك الشمس
ولا مستقر رموشك على أصلابي
أو سريانك في شرايين اللهب
أتدركين يا حفيدة العتب ؟
ما أشد نيران العتب
حينما تعزف ترنيمة اللهاث
وما ألذ مواقيت العناق من بعده ..
هل نخاصم البعض ؟
كي نحترق في سعير النار
أم نطوف قرب الوجل
أتسمعين زئيري ؟
هل تتنفسين عطشي ؟
يا وهمي
اسكني مقلي
تطهري بعذابات النظر
اغفي في أحلامي
لا يفزعك هياج نبضي
وصراخ شفاهي
لا تهربي من جنون أطواقي ..
أنتِ ياطلع الكرّز
شمري أحزان فؤادكِ
على مراح الصبا
وعلى عقارب الساعة
كوني آفة لحظة المطر
عبئي أنفاسي بالياسمين
ارسمي خارطة صلاتي بشفاهك
على كل معابد الهندوس
فاني رضيت بالتهم
سأخشع
لرهافة رضابك
ومواقيت الفراق
وأسوار الانين