الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حوار مع د. نيڤين عن إختلاف السلوك السياسي للمصريين والعراقيين

بواسطة azzaman

حوار مع د. نيڤين عن إختلاف السلوك السياسي للمصريين والعراقيين

منقذ داغر

 

نشرت الكاتبة والأكاديمية المصرية المعروفة د.نيڤين مسعد،أستاذة العلوم السياسية في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة بجامعة القاهرة مقالَين على موقع عروبة 22 للرد على سلسلة مقالاتي عن (مركزية مصر ولا مركزية العراق) والتي نشرتها الشهر الماضي على صفحات الزمان الغراء. ولأهمية ذلك الرد وأحتراماً للدكتوره نيڤين وتعقيبها على ما كتبته،ولتوضيح الأمور للقارىء المصري والعراقي والعربي عموماً،أرتأيت أن أرد هنا وأفتح حواراً عاماً حول تفسيري لسبب تمسك المصريين بالحكم المركزي على طول تاريخهم،وسبب تمرّد العراقيين على السلطة المركزية طوال تاريخهم.  وعلى الرغم من اتفاق د نيڤين معي في أنني لم أكن أول من فسّر السلوك السياسي بالجغرافيا إذ فعل ذلك أبن خلدون وسواه من اللاحقين،لكني اشرت بوضوح ان الجغرافيا هي أحدى (وليس كل)المؤثرات المهمة في ثقافة الشعوب اجتماعياً وأقتصادياً وسياسياً.

ثقافة المجتمعات

لقد اوضحت تأثيرات العوامل غير الجغرافية،والجغرافية على ثقافة المجتمعات تفصيلاً في كتابي(ثقافة التصلب:منظور جديد لفهم المجتمع العراقي).أما في مقالاتي التي علقت عليها د نيڤين مشكورةً فقد ركزت فيها على تأثير الجغرافيا فقط. لقد انطلقت في اطروحتي من المشتركات بين مصر والعراق،حيث هما اقدم واعظم حضارتين عرفتهما البشرية في العصور القديمة،وكلاهما حضارتَين رسوبيَتين إذ أعتمدتا على الأنهر للزراعة والتطور الحضري والاقتصادي.كما أنهما أمتازتا بحضارَتَين إسلاميتَين متطورتين،فضلاً عن تشابههما في تاريخهما الحديث حيث أطاح (الضباط الأحرار) بالحكم الملكي فيهما معاً وخلال نفس الحقبة التاريخية تقريباً. مع هذا فأن من يتعمق في التاريخ السياسي لكليهما يجد تبايناً واضحاً في نمط الحكم الذي ساد في البلدَين على مدى التاريخ. ففي الوقت الذي أخترع فيه العراقيون منذ سومر ما سُمي بدولة المدينة  city state ،والتي تمتاز بوجود نظام سياسي منفصل ومستقل،وحاكم مختلف، بل وحتى آلهة متباينة، في كل مدينة عراقية رغم تجاورها جغرافياً،فأن مصر امتازت طوال تاريخها(الا ما ندر) بوجود دولة مركزية قوية تسيطر على كامل ارض مصر ،تحت قيادة الفرعون الذي ينظر له كإله،وعلى أمتداد نيلها. ففي أوج عظمة الحضارة السومرية كان لدينا 12 مملكة شبه مستقلة دون وجود سلطة مركزية تتبع لها.،وخلال الحضارتين الأكدية والآشورية كان لدينا ممالك أكبر عدداً من ذلك. بل وحتى حين كان يظهر ملك عظيم في احدى تلك المدن ويقهر كل المدن الاخرى ويوحدها تحت سلطته، فأنه كان يُبقي على كثير من خصوصيات المدن بطريقة اقرب للحكم الذاتي أو الفيدرالية في عالمنا المعاصر. أما في مصر فهناك دوماً فرعون واحد ونظام واحد وحكم مركزي واحد تخضع له كل المدن والقرى المصرية. واذا انتقلنا الى العصر الاسلامي ،فقد كان العراق على صغر حجمه مقارنةً بمصر  يتألف من ولايتي البصرة والكوفة (شبه المستقلتين في حكمهما)،في حين كانت مصر موحدّة منذ دخولها الاسلام،تحت ولاية حاكم واحد فقط. أما اذا أنتقلنا للعصر الحديث فقد كان العثمانيون يحكمون مصر كلها،وهي اكبر بكثير من العراق،كولاية واحدة تدار مركزياً من القاهرة،لا بل انهم زادوا عليها السودان ايضاً.في حين ان العثمانيين حكموا العراق من خلال ثلاث او اربع ولايات (الموصل،بغداد،البصرة،وديالى). وكل ولاية مستقلة سياسياً وادارياً واقتصادياً عن الاخرى. بل وان العراق الحديث منذ تأسيسه في عام 1921 الى اليوم،ورغم انه كان يخضع للسلطة المركزية في بغداد، لكنه شهد مطالبات مستمرة (وعنيفة احياناً) بالانفصال والاستقلال والتمرد على المركز (بغداد)، ومن قبل اطراف متعددة. وحتى في ظل اقوى النظم الشمولية التي مرت بالعراق الحديث (نظام البعث)، فلم تستطع بغداد اخضاع الجميع لسلطتها الا لسنوات قليلة،وهو الامر الذي لم تشهده مصر مطلقاً حيث كانت موحدة على امتداد تاريخها. ولم نسمع يوماً ان الاسكندرية مثلاً او أسوان،أو سواها طالبت بالاستقلال او الحكم الذاتي.

نحن إذاً إزاء نمطين سياسيين متباينَين في مخرجاتهما رغم التشابه الكبير في مدخلاتهما. لقد فسّرت وفصّلت هذا التباين بالعوامل الجيوبوليتيكية المختلفة في البلدَين ويمكن للقارىء الرجوع لها في مقالاتي الخمسة المنشورةعن الموضوع،مع تأكيد واضح بأن الجغرافيا هي عامل واحد فقط من عوامل التفسير الممكنة.

غرض اساس

بعد هذا التلخيص المكثف لما أسمته د نيڤين مسعد بـ (اطروحة منقذ داغر) انتقل للغرض الاساس من هذا المقال وهو محاورة الكاتبة المصرية في فهمها لما كتَبتُهُ عن مركزية مصر ولا مركزية العراق عبر التاريخ.قبل البدء بذلك يجب اعادة التأكيد بأن السلوك المتمرد للعراقيين ليس دليل ايجابي يحسب لهم  ولا سلبي يحسب عليهم، مثلما أن السلوك المركزي المصري هو ليس دليل ايجابي او سلبي. فمبتغاي لم يكن تقويم اي من النظامين افضل لان هذا ليس دوري.

أن النجاح في الحكم يعتمد اولاً على موائمة النظام السياسي لظروف البلد المختلفة ومنها التاريخ والجغرافية. لذا حاولت من تحليلي الجغرافي-التاريخي الوصول الى فكرة ان تاريخ وجغرافية العراق يجعلان اللامركزية اكثر تفضيلاً،في حين ان تاريخ وجغرافية مصر تجعل المركزية هي النمط المفضل. هذا اذا اعتمدنا معيار الجغرافية والتاريخ فحسب.أما اذا اخذنا بنظر الاعتبار العوامل الاقتصادية والدينية والاجتماعية وسواها فقد نصل الى استنتاج مختلف. أعود لمناقشة ثلاث نقاط أثارتها واعترضت عليها د نيڤين بخصوص تحليلي هذا:

1.في مقالها الذي كتبته يوم 21 حزيران انتقدت الكاتبة إنكاري (المطلق لأي نوع من التمرّد

 على السلطة المركزية في مصر

وصولًا للقول بأنّ الطاعة تمتزج بچينات المصريين)،في حين ان التمرد معجون بدم العراقيين.وهي تعتقد (أن هذا غير  صحيح بالمرّة فالمصريون لهم تاريخ طويل في مقاومة ظلم السلطة واستبداده)

. والحقيقة أنني

لم أنكر على المصريين ثوراتهم على الظلم. فالشعب المصري معروف بثوريته ومقارعته للظلم والطغيان،لكني قلت أن المصريين-بعكس العراقيين -كانوا طوال التاريخ مطيعين للسلطة المركزية والفرق واضح بين المفهومَين. فطاعة السلطة المركزية ليست مثلبة بل قد تكون فضيلة حينما لا يكون الحاكم ظالماً او طاغية. بل قلت اكثر من ذلك بأن المصريين حتى حينما يثورون على الحاكم والسلطة المركزية فأنهم لا ينتقمون منهم وضربت مثلاً بالفرق بين ما حصل مع الملك فاروق حينما ثار (الضباط الاحرار) عليه في عام 1952 وكيف أنه عومل باحترام يليق بمن كان ملكاً لمصر،بعكس ما فعله(الضباط الاحرار)في العراق الذين لم يكتفوا بالثورة على النظام الملكي ولا حتى عزل الملك ،او حتى محاكمته وقتله،بل قتلوا كل افراد أسرته ورئيس وزراءه والشريف عبد الاله وسحلوهم في الشوارع بطريقة اقل ما يقال عنها أنها لم تكن إنسانية.

               2.            تذهب د نرمين في مقالها الثاني المنشور يوم 3تموز الجاري الى نقد  وتفنيد ما(ذهب إليه داغر من أنّ الفرعون كرمز للسلطة المركزية وكإله معبود في الحضارة الفرعونية غالبًا ما كان واحدًا، بينما أنّ الملك في الحضارة السومرية كان مندوبًا عن الإله وليس إلهًا بذاته) وتردف قائلةً أن (الحضارة الفرعونية عرفت فكرة تعدد الآلهة بشكل فلسفي رفيع، حيث كان للإله تجلياته المتعدّدة في الاثنين وأربعين مقاطعة العليا والسفلى في مصر). وهنا التبس ايضاً على الكاتبة قصدي من الاشارة لألوهية الفرعون وتأثير ذلك على طاعة اتباعه له. إذ إني

 لم انفي التعددية في الالهة عند المصريين واتفق معها ان الحضارة الفرعونية عرفت فكرة تعدد الالهة،لكني اردتُ تثبيت تأليه السلطة المركزية عند المصريين. فبينما ينظر للفرعون على انه إله ويجري التعامل معه على هذا الأساس،فأنه حتى في عصور عظماء الحكّام في وادي الرافدين مثل نبوخذ نصر وحمورابي وآشور بانيبال،لم ينظر لهم سوى أنهم مندوبين عن الالهة وهنا نتذكر اللوح الشهير لمسلة حمورابي الشاخص في متحف اللوفر حيث يتسلم الملك العظيم حمورابي التشريع من الاله ويقول(أرسلني الإله مردوخ لأحكم بين الناس واحمي الأرض، ولذلك وضعت القوانين ونشرت العدالة بينهم وهيأت لهم الخير والسعادة). بمعنى ان حمورابي ليس الهاً وانما مُرسَل من الإله. واضح إذاً الفرق بين الحضارتين،فالخروج عن طاعة الإله(الفرعون) في مصر تعني الكفر بالاله،أما الخروج عن طاعة الحاكم في العراق فهي ليست كفراً. ومن يقرأ تاريخ العراق القديم والحديث حتى يعجب من كثرة خروج العراقيين على الحاكم المركزي!

 3. ثم تقول (أنّ الذي صنع تماسك المجتمع المصري هو الدرجة العالية من التجانس بين مواطنيه… في حين عندما ننتقل إلى العراق نجد الوضع شديد الاختلاف لأنه أحد أكثر الدول العربية تنوّعًا على المستويين العرقي والديني). هنا يُفهم من حديث د نيڤين أنها تعزو تفضيل المصريين للسلطة المركزية لتجانس المجتمع المصري وهي نقطة جديرة بالاهتمام وقد تكون صحيحة لكني لم أتطرق لها في تحليلي، لاني ركزت على تأثير الجغرافيا في السلوك السياسي.مع ذلك فأن في العالم كثير من المجتمعات المتجانسة لكنها تأسست على لا مركزية السلطة بل وتفضيله كسويسرا والمانيا. في حين أن هناك دول تميزت بتنوع عرقي وديني اكثر من العراق لكنها امتازت بالحكم المركزي دوما(ايران مثلاً).والواقع أني لم انفي التجانس عن المجتمع المصري في كل اطروحتي. كما اني لم اتحدث مطلقاً عن تماسك المجتمع وديموغرافيته وانما عن توحدّهم باطاعة السلطة المركزية.

أخيراً فان تفسيري للاختلاف بين سلوك المصريين والعراقيين سياسياً هو تفسير يحتمل الخطأ،مثلما أن ردود د نيڤين وتفسيراتها تحتمل الصواب. ولابد من شكر د نيڤين على اثارتها للنقاش حول هذا الموضوع الذي يؤكد ان كل من مصر والعراق حضارتين رائدتين ورائعتين اختارتا الاتجاه نحو طرق مختلفة للحكم السياسي رغم تشابههما في كثير من الخصائص الجغرافية.

 


مشاهدات 116
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/07/10 - 3:58 PM
آخر تحديث 2024/07/16 - 1:58 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 81 الشهر 6854 الكلي 9368926
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/7/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير