أنا..والمتنبي
وجيه عباس
أَ كان صوتُكَ أم تلك الأناشيدُ
وتلكَ عيناكَ عاشوراءُ أم عيدُ؟
وذي ظلالُكَ أم كنتَ الغريبَ بها
ظلّاً، و”عيسى” على الصلبانِ مشدودُ
أم جمرةٌ كلَّما أوْقدْتَها اشتعلتْ
كأنَّها فيكَ من نارٍ، أخاديدُ
وهل ثيابُكَ ملءَ الظلِّ تسترُها
أم قام دونَكَ ظلٌّ دونه بيدُ
أقِمْ ظلالَكَ إنَّ الدهرَ يَرهَقُهُ
لو قلت للناس :إنَّ العبدَ معبودُ
وتلك أدنى نهاياتٍ تؤذِّنُها
بين الخلائق أنَّ الذلَّ تعويدُ
*****
يا أيُّها المُبتلى بالناس أجمعِهم
لوقيل في الناس أنَّ الحرَّ موجودُ
وحاضراً حين غاب الناسُ من فَرَقٍ
وشاهداً عن سواهُ وهو مشهودُ
وقائلاً لا يهابُ الموتَ يُفزِعُهُ
أنَّ الوجود غيابٌ فيهِ محمودُ
لم يتَّقِ الليلَ والإصباحُ طال به
وطرفُهُ بثيابِ الأمس معقودُ
وطالباً بحروفِ الضادِ موعدَهُ
لأنَّه رغم أنف الموت مبعودُ
فما عدا ورؤوسٌ طالما احتجبت
أمامَ عينيه أغرتها الرعاديدُ!
كانوا يلوذون بالمعنى مخافةَ أنْ
يراهُمُ، فتعامتْ دونه الصِيْدُ!
وحين ألقى عصا الترحالِ جانبَها
طغى الكنيفُ فنمرودٌ ونمرودُ
لكنْ تناهبَكَ الخالون منقصةً
حتى كأنَّك بين الناس فرهودُ!
عدتْ عليك امّعاتٌ لو قرنتَ بها
قلامة الظفرِ لم يُقرنْ بها عودُ
حتى القرودُ تعالتْ عن خلائقِهم
إنَّ القرودَ لأقحاحٌ صناديدُ!
*****
أَقمْ لنفسِكَ محراباً ومئذنةً
مابين حلِّكَ والإحرامِ تحميدُ
كنْها وضوءاً، وكنْ في مائِها غَرَقاً
لايستبين سوى أنَّ المدى طودُ
أبحرْ فـــ”نوحُكَ” طوفانٌ وأشرعةٌ
والماءُ في رئة الغرقانِ توكيدُ
وراء ظهرِكَ كلُّ الغارقات ذوت
سوى غُصينِكَ باقٍ فهو إملودُ
كن كعبةَ المُدُنِ التنآى على قَدَرٍ
تطوفُ حولك حتى ينبعَ العيدُ
ويستفيقُ على صحوٍ مفارَقَةً
والناسُ غرقى، وصوتُ الأرض تجريدُ
كنْ شاهدَ الماء، إنَّ الماءَ أرغفةٌ
وللجياع تلاواتٌ وترديدُ
وكُنْ لنفسِكَ مِصْراً حكَّموكَ به
ولستَ كافورَهُ، بل أنت إخشيدُ
هذا البياضُ فراغٌ يسبحون به
ويعلمون لياليهم به سودُ
لَيُبصِرون ولكنَّ الضميرَ عمىً
ويسمعون ولكنَّ الخطى دودُ
ويحسبونَ ولكنَّ الظنونَ تلت
حتى كأنَّك إنجيلٌ وتُلمودُ
تقوَّلوكَ بتثليثٍ وماعلموا
إنَّ الولاية في عينيك توحيدُ
*****
وعنكَ تسألُني عيناك مذْ غَفَتا
وهل تعودُ لعينيك المواعيدُ؟
وهل سبيلٌ إليها والرؤى رَحَلتْ
ولا الصَحاحُ روتها، والأسانيدُ
الذكرياتُ وما أبقت سوى شَبَحٍ
حتى الغضونُ أضاعتها التجاعيدُ
مثل الرمال تسفُّ الريحُ أوجهها
فتستفيقُ على كثبانِها البيدُ
هذا أنا، ملءُ مابي غربةٌ وعلى
قماشةِ الوجهِ في الألوان تسويدُ
أضعتُ ظلّي، وأبقيتُ الخطى مُدُناً
أردُّها وأنا في التيهِ مردودُ
بلى حزينٌ على وحدي ووحشتِهِ
إني غريبٌ وأقصتني الزغاريدُ
ولا الكؤوسُ رويّاتٌ وأفجعُها
لو أنكرتكَ بريّاها العناقيدُ
ياكلَّما وَلَغَتْ أنيابُ مسبعةٍ
بلحمِكَ الحيِّ إلا قلتَها: زيدوا
حتى كأنَّك موكولٌ لبعد غدٍ
وفي النهايات سرٌّ فيك مفقودُ
*****
يامُستَفزَّ خطاها كلَّما احتشدت
أعيذُ صبرَكَ إنَّ الهمَّ تحشيدُ
وباصراً قيد حتفيها منازَلَةً
وأنت فيها على الحالين محسودُ
كنتَ النقيعَ على تربانها جَسَداً
فليس يحجبه في الموت تجسيدُ
صنو اللديغ بليّاتٍ وتحسبُها
مما أفاء عليها الغُرمُ والقَوْدُ
وتالياً جاء من أقصى مدائنها
يسعى، وطعمُ رحاها فيه تعميدُ
ماضرَّهُ البعدُ إذْ ينآى، غُيابتُهُ
جُبٌّ، وأخوتُه فيها أجاويدُ
حدَّالتماهي تجلّاها مجالدةً
وهان لو أنَّهُ بالحرف مجلودُ
لكنه وجدَ الإنكارَ معرفةً
والجهلُ مبلغُهُ والحقُّ موؤودُ
كانت بعزلتِهِ الدنيا وما خَبَأَتْ
وللمقادير أحكامٌ وتجويدُ
أَضرَّهُ لو تعالى عنهُمُ وطناً
جناه في عتبات الريح محصودُ
ومايريدون؟ قد ملَّ انتظارَهُمُ
مرَّ الشتاءُ وقيظُ الجمر صيهودُ
من كان يعبد عبوداً...إلى سَقَرٍ
وسوف ينتظر الخالين “عبودُ”
*****
لا أكتُمنَّكَ بعضُ الحزن تغريدُ
لوقلتُ فيه بأني فيك موعودُ
مابيننا الشعر: وهمٌ وانبجاس دمٍ
وظلُّ خيمتنا في البيت مهدودُ
هذي القوافي غريباتٌ، وأفجعُها
إلا تراك!، وبعض العمي تقليدُ
لُذنا بأبياتنا لابيت يجمعنا
سواه والناسُ في تيهٍ عواميدُ
كنا ولاةً وبيت الشعر بايعنا
وللخيال ولاياتٌ وتمجيدُ
لا الريَّ كان لنا وجهاً فنقصدُه
دم الحسين به كأسٌ وعنقودُ
ولا رمينا بسهمٍ يشهدون لنا
عند الأمير به جندٌ معاضيدُ
من مُبلغُ المتنبّي في شكايته
إن المحامد أفنتها المحاميدُ
وليس يبلغُ عبدُ السوء منزلةً
الإبأنَّ فم الإنشاد مسدودُ
“لاالخيل لا الليل لاالبيداء تعرفُهُ
لاالرمحُ لا السيفُ لاالقرطاسُ لا الجودُ
ولا “الذي نظر العمى إلى”أدبٍ
وكلُّ ماروت الأقلامُ تعديدُ
دعْ عنك مصرَ وكافوراً، فثَمَّ هنا
مايوجعُ القلبَ...ليت القلب جلمودُ
وما لمصرَ؟ ودون المُلْكِ ألفُ دمٍ
يُراقُ لو حكمت فيك التقاليدُ
أولى بما أنت عرشَ الشعر تبسطُهُ
مابين كفّيكَ والمعنى عبابيدُ
ماذا وقوفُكَ والحكّامُ مذئبةٌ
وأنت دونَهُمُ رجعٌ وتنهيدُ
أتستطيلُ عليهم بالبحور بها
المالُ بحرٌ وللأسياف تهديدُ
لوكان حلمَكَ سيفُ الدولة افترقتْ
يداهُ عنكَ وما تغني المقاليدُ
أو كان حبُّك مرهوناً بخولته
فتلك أدهى يدٍ والوصلُ مجدودُ
أضعت وجهَكَ بالحكّام تمدحُهم
وذا لعمري عارُ الشعر معهودُ
كان اتّجارُك بالمعنى قصيدته
“إنَّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ”
فما وقوفُك بالأبوابِ تطرقُها
وللسؤال على كفيك تصعيدُ
الحمراءُ كوفتُك الأولى تبيح دماً
حتى كأنَّك فرط الموت مولودُ
أنبيك أنَّ يداً جُذَّت وسوأتها
بأن صاحبها بالجود مشهودُ
وإنَّ من ركعتْ تلك الرقابُ به
تعليهِ شأناَ إذا ماقلتَ: رعديدُ