الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ها العيد نعيده ببغداد.. وعيد الجاي بفلسطين

بواسطة azzaman

ها العيد نعيده ببغداد.. وعيد الجاي بفلسطين

رياض شابا

 

  «ها العيد نعيده ببغداد وعيد الجاي بفلسطين»، أغنية ادتها طيبة الذكر «مائدة نزهت» في أواخر الخمسينيات، تدندن روحي معها تلقائيا عند حلول اي عيد، ميلاد، فطر، اضحى، كان الملايين قد ترنموا بها أيضا سنوات متتالية في انتظار أن يتحقق حلم العودة!

   انتبه فجاة إلى تاريخ اليوم.. فات العيد، ولكن هل فاتتني النكسة؟

  الشهر كله حزيران. كل يوم بات الخامس منه بالنسبة للكثيرين، والحياة تبدو وكأنها قد توقفت عند ذلك الزمن من العام 1967، مكّن كيانا مغتصبا من الحاق الهزيمة بدول عربية مجتمعة!! اي عارٍ نحاول ان نغسله مع بقية عمر صار كله فلسطين، لم نرضعها مع حليب الامهات، ولم نشربها مع اول قطرة ماء، بل سكنتنا مع هواء استنشقناه لحظة الولادة، نحمله اينما ذهبنا نحن ابناء الجيل الذي واكب المأساة ونشأ متابعا لفصولها. وانتبه ثانية إلى ان ذلك التاريخ صار الان يوما عالميا للبيئة في روزنامات تشعر بقلق ازاء منغصات «دولية اممية» لم نألفها في السابق، تنتابني غصة ومرارة ازاء هذا الاكتشاف، كيف لا ونحن الذين وشمنا بوجع الماساة ورافقنا الجرح الذي كبر معنا، هكذا نردد ونشعر ونحسّ.. .. ونتحسّس ايضا، كلما تم تذكيرنا بالحقيقة!  في سطوري الاتية ومضات وصورمن ذاكرة عقود، تتراءى امامي تلقائيا كلما جاء ذكر فلسطين، تحضرني دائما من دون مئات الاحداث، قمم ومؤتمرات، بيانات ومفاوضات، وعود ولاءات، عمليات ومعارك، توترات وتجاذبات.. ومضات لا تشكل موقفا ازاء الشخصيات والاحداث التي ياتي ذكرها في السياق، وهي قد لا تعني الكثير لمن يقراها، لكنها تستوقفني دائما كلما تذكرت: «اخي جاوز الظالمون المدى..» مطلع قصيدة «فلسطين» للشاعر علي محمود طه بصوت محمد عبد الوهاب الذي لحنها نداءً لكل الناطقين بالضاد: «فحق الجهاد وحق الفدا»، قراتها مرتديا «الكشافة» ذات رفعة علم من العام الدراسي 1957_1958، بصوت جهوري اردت ان انافس فيه نبرات سعيد ججاوي مدير مدرسة شمعون الصفا الابتدائية للبنين في الموصل وهو يلقي خطبته، حريصا على نيل ثقة معاونه الذي علمني العربية اسحق عيسكو:»احفظا مليح رياض راح تقراها الخميس الجيي بتحية العلم «، « نعم استاذ ستلازمني ماحييت «.. ..

الباص رقم 4

«يكَولك ييزي عاد، هاي صار عشرين سنة بعد النكبة، وكَبلها وبعدها، صار الوكت واجت الساعة»!، ترنّ كلمات «ستّار»  الاسمر صاحب اشهر صالون حلاقة في سوق البتاويين العريق ببغداد في مخيلتي بعد نحو عشر سنوات من ذلك التاريخ، مثل دقات ناقوس رتيبة، وهو يردد الكلام عينه امام اي داخل جديد، زبونا كان ام مستطرقا جاء يتنسم الاخبار من الراديو الذي ينقل انباء الحرب ويبث اغنيات الانتصار على عدو آن أوان القائه في البحر.  اترك المكان مسرعا من دون التفكير بدشٍ سريع او اكتراث لبقايا الشَعر الذي تم قصه للتو وهو ينهش جسمي المتعرق، ليحملني الباص رقم 4 من ساحة «النصر» الى «الميدان» حيث مقر»صوت العرب» اول جريدة يومية اعمل فيها محررا لصفحة «الحياة الجامعية» الاسبوعية، زقاق يتاخم مبنى وزارة الدفاع، ينظر اليه المارة بشكل مغاير اليوم، بل انني رايتهم عبر نوافذ الباص الاحمر وكانهم في مشهد سينمائي ضخم يجري تصويره في الساحات والفروع و»الدرابين» التي مررت بها، الكل يترقب التطورات والمستجدات الاتية من هناك، من تلك الميادين البعيدة، حيث المعارك تدور في قلب «وطني حبيبي وطني الاكبر»،فيما اصبح «كل شيء من اجل المعركة» شعارا للمرحلة، بما في ذلك صفحتي التي تحولت الى مواد صحفية تُحشد بهذا الاتجاه، فبادرتُ الى العمل تلقائيا قبل ان يبلغني المصري علي منير «سكرتير التحرير» بالامر شفاها. مقابلات مع جامعيين اجدهم في معظم الكليات وخصوصا الطبية منها والصيدلة ومعاهد التمريض والصحة، قريبة كانت ام بعيدة، متواجدين «تحت الطلب» رغم اضطراب الدوام في موسم امتحانات واجواء عطلة صيفية جديدة. حملات للتبرع بالدم، واحاديث تملؤها الحماسة مع قطاعات اخرى مثل رجال الاعمال وتجار وموظفين وحرفيين على اهبة الاستعداد للتبرع بالاموال او الذهاب الى الجبهة، تجمعات عفوية في المقاهي وامام محلات «الشربت» النشطة صيفا، حيث الراديوهات كلها على موجة واحدة.  ايام اربعة او اقل بعد الخامس، وعرفنا ان كل شيء قد انتهى، استيقظ العراقيون والعرب والعالم على حقيقة الهزيمة: اين اصبحت كل تلك البيانات والاناشيد اذن؟ سؤال ستجيب عنه الايام اللاحقة.. اشياء كثيرة، كثيرة جدا، محزنة، مثيرة، محيرة ومذهلة فيما قراناه وسمعناه وشاهدناه!! ولن اخوض في التفاصيل لانها ليست من صلب ما انوي كتابته، هي موجودة في صحف وكتب وتسجيلات وفيديوهات كثيرة تحكي ما حصل و تكفي لان تشبع فضول السائلين.   في التاسع من حزيران وقبل ان تضع «حرب الايام الستة» اوزارها وجدت نفسي انقاد مساء الى مبنى الجريدة رغم قناعتي بان الحاجة انتفت الى اية مواضيع من نمط الايام الاولى للحرب، وهل ثمة ايام اولى واخرى اخيرة؟ في الطريق تملكني شعور بانكسار تسهل قراءته على كل الوجوه التي صادفتني. واثناء صعودي الدرجات الى الطابق العلوي للجريدة حيث اقسام التحرير، لاحظت تجمعا لافتا غير مالوف على باب غرفة رئيس التحرير فوزي عبد الواحد تحديدا، يقف الجميع بوجوم واضح يسيطر على المكان وكأن على رؤوسهم الطير وهم يصغون باهتمام الى صوت جمال عبد الناصر يلقي خطاب التنحي.

 بكى احدهم مرددا: «انعل.. .. شلون يستقيل»؟ لم يكن يعمل في التحرير لانني اعرف معظم الزملاء هناك، جاء بقدح ماء بارد للاستاذ فوزي الذي قال بصوت تخنقه عبرات لمحناها من خلف زجاج نظارته السميك: «هسه باﭼر تطلع مظاهرات بكل مكان، راح تنكَلب الدنيا».   في الصباح التالي ظهرت الصفحة الاولى من الجريدة بكلمة واحدة ضخمة: «نرفض» مع صورة كبيرة جداً للرئيس عبد الناصر.

معركة الكرامة.. المتابعة ميدانيا

  «اريدك تكتب تحقيقات تهز هز».. خمس كلمات ماتزال عالقة في بالي من حديث مع الاستاذ سجاد الغازي «ابو عماد» ونحن نقطع الطريق من مطبعة «الزمان» الواقعة في بدايات الزقاق المتاخم «للدفاع» ذاته، مرورا بمقر عملنا القديم «صوت العرب»، وجهتنا مكان جديد سيجمعنا قريبا، «المواطن» احدى صحف المؤسسة العامة للصحافة والطباعة التي تم استحداثها مع الغاء معظم الصحف الاهلية اليومية، سيكون الرجل نائبا لرئيس التحرير عبد الله الملاح، والجريدة تحتل مبنى قديما كبيرا بطابقين تَستدل عليه بوجود دائرة البريد القديمة في الجوار، جاء معنا ايضا فاضل العزاوي الصحفي والشاعر والروائي والمترجم.

 والمترجم المتمرس الجيد في ذلك الزمان عملة صعبة يدرك قيمتها من عايش واطلع على تاريخ الصحافة في بلدان مثل العراق، قال لي بعد ان تولى مهامه سكرتيرا للتحرير في اول لقاء لنا والسيجارة لاتفارق يده: «ايييييي.. .. لاتنسى تركز ع الاختيار .. الانتقاء.. والاسلوب همّينة «... وركزتُ على اشياء كثيرة، ولم اخيب املهم، وكان اول تحقيق انشره في «المواطن» صرخة بعنوان: «مهندسون عاطلون يبحثون عن عمل»!  ثم رحت ابحث عن المزيد والاقوى، يرافقني المصور الكبير سامي النصراوي. كتبت مجموعة تحقيقات وتقارير جعلت المترجم والصحفي البارع حميد رشيد يقول: «رياض شابا.. واحد من احسن الريبورترز» هكذا كان يسمي «المخبرين» اي المندوبين الذين يجمعون الاخبار ومحرري التحقيقات، فعل ذلك عندما صدر قرار بتقليص عدد العاملين من غير الموظفين على الملاك الدائم، فتم استثنائي من القرار كي اواصل العمل بالقطعة وانا امضي سنتي الدراسية المنتهية في الجامعة، ماهي الّا شهور واتخرج، وعندها سيكون لكل حادث حديث.

لقاء ودي

 اما تعرّفي على مسؤولين ودبلوماسيين عدة ولقاءاتي مع وفود وشخصيات كثيرة فقد عززت من موقعي بالتاكيد، قال لي الاستاذ الملاح وانا اجلس قبالته في مكتبه المطل على الشارع: « لاتهتم، عدنا مرونة تخلينا نبقيك، عندك ما يؤهلك لذلك، احنا نريدك». كان لقاء مفعما بالمودّة وانا ارى مدى التاثر المرسوم على وجهه عندما ابلغته سلام المضمد «الشاب» شابا عند اول تعيين له في احدى قصبات لواء اربيل، «بارزان» ربما، او «طق طق» حيث ولدتُ، والتي كان الملاح مسؤولا اداريا فيها منتصف اربعينيات القرن المنصرم: «ها.. شابا..؟ تذكرتونو..»!!

   وجدت فرصة مؤاتية كي اكتب شيئا مميزا، وكان ذلك معركة الكرامة «21 اذار 1968»، عشرة شهور بعد النكسة، اول نصر عربي يغسل شيئا من اثار الهزيمة، ويسترد الكرامة في بقعة او بلدة تحمل اسم الكرامة، ساعيش القضية ميدانيا، ساكتب هنا ببعض الاطالة، لان الامر يستحق فعلا ..اجواء ما بعد المعركة وقصص من الواقعة التي انتصر فيها الجيش الاردني و المقاتلون الفلسطينيون على العدو الاسـ / رائيلي.

 اعلنت كليتي «الادارة العامة» بجامعة بغداد بعد مدة قصيرة من المعركة عن زيارة الى الاردن براً، للفترة من 30 نيسان وحتى الثالث من ايار، تشكّل وفد تراسه يعرب فهمي سعيد معاون العميد، سنذهب الى هناك تضامنا مع الشعب الفلسطيني والاردن الشقيق، فقد كانت التوجهات انذاك تتمثل بتقديم انواع الدعم الاعلامي والشعبي للبلدان التي خاضت الحرب.

 طوى الاستاذ سجاد رسالة كتبها للتو ووضعها في مظروف ابيض دون ان يوصده، موجهة الى عبد الحفيظ محمد رئيس تحرير جريدة «اخبار الاسبوع» الاردنية، سلمني اياه وهو يقول: «سيقدم لك المساعدة الممكنة». وقد تجاوب الرجل معي بالفعل عندما زرته مساء في مكتبه فور وصولي الى عمان بعد رحلة طويلة بالباص، كان الناس والمدينة كلها تتصرف في جو يشوبه الكثير من الاعتداد بالنفس، مع ترقب دائم لما يحمله المستقبل، هو ترقب سيظل يلازم الغالبية بعد تلك الاحداث.

 في فجر اليوم التالي رن الهاتف في غرفتي بالفندق الصغير وسط البلد، كان المتكلم رجل اسمه نمر او ابو نمر الذي سيصطحبني الى معسكرات تدريب الفدائيين ومخيمات اللاجئين الجدد...

  كانت معسكرات التدريب في مواقع لا تخلو من تضاريس صعبة تظللها أشجار عالية اشبه بغابات صغيرة، وكان اكثر ما تاثرت به تدريب «الاشبال»، اطفال بعمر الزهور يرتدون الكاكي، يقفزون فوق الحبال او يتسلقون بواسطتها، يخوضون اجواءً تحاكي اجواء المعارك.

 اجريت لقاءات عدة مع مسؤولين ومدربين وفتية جعلوا دموعنا تسيل ونحن نرى اصرارا يبعث على الانبهار، تاسفت لان التصوير ممنوع هناك، لكنه مسموح به مع سكان المخيمات حيث اللاجئين الجدد «يواصلون» تشردهم في خيم  اكثرها بيض و بعضها سود كالحة، تتجمع في اماكن تشكِّل الصورة الممتدة على مر السنوات لماساة تكبر وتتوسع، مع مقاومة تحاول ان تصلب عودها، وامة تعيش نزف جرح لن يندمل بسهولة. بعض الشيوخ والعجائز ممن هاجروا ايام النكبة الاولى من حيفا ويافا وغيرهما من المدن التي يطلق على سكانها اسم «فلسطينيو الداخل» كانوا ضمن من كلّمتهم، ترى كم من النكبات ينتظرهم، بعد ان اجبروا على ترك اراضيهم وبلداتهم وبيوتهم ومزارع الزيتون والبرتقال والليمون؟ يكاد القلب يتقطر دما لمشاهدَ وفصولٍ اشد قسوة يمر بها شعب يريد ان يقرر مصيره من اجل حرية باهظة الثمن.

   فور عودتي كتبت سلسلة تحقيقات ضمنتها مشاهداتي وانطباعاتي. تنتابني مشاعر يصعب وصفها وانا اخترق طريقا يمر بقرى وضِيَعٍ، كنت قد سجلت اسماءها في دفتري الصغير بعد مغادرتي مدينة «السلط» الاردنية، وحسبما علق في ذاكرتي بعد كل هذه السنين يرد اسم وادي شعيب والشونة الجنوبية، خيل اليّ كلما اقتربت من المكان المقصود، انني المح قباب كنائس القدس القديمة وجوامعها، الماذن والابراج، النواقيس والتكبيرات..

   لقد شكّلت قصص البطولة التي سطرها المقاتلون في حدث مشهود بدلالاته الزمنية والمعنوية، مادة دسمة للصحافة والاعلام انذاك، اذ قدم المدافعون اروع صور التضحية والاستبسال في اشتباك شهدته المنطقة التي تقع فيها تلك البلدة الواقعة على الحدود الاردنية الغربية (بين قوات جيش الاحتلال الاسـ / رائيلي وبين القوات المسلحة الاردنية ومعها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في فترة عرفت بحرب الاستنزاف) حسب تحديث اخير قراته على «ويكيبيديا» ويطيب لي ان انقل عنها ايضا:  (يومها حاولت قوات الكيان الصهيوني احتلال نهر الاردن لاسباب يعتبرها استراتيجية. وقد عبرت النهر فعلا من عدة محاور مع عمليات تجسير وتحت غطاء جوي كثيف. فتصدى لها الجيش الاردني على طول جبهة القتال من اقصى شمال الاردن الى جنوب البحر الميت بقوة. وفي قرية الكرامة اشتبك الجيش العربي والفدائيون مع القوات الاسـ / رائيلية، في معركة استمرت قرابة الخمسين دقيقة. واستمرت بعدها المعركة بين الجيش الاردني والقوات الاسـ / رائيلية اكثر من 16 ساعة، مما اضطر الاسـ / رائيليين الى الانسحاب الكامل من ارض المعركة تاركين وراءهم ولاول مرة خسائرهم وقتلاهم دون ان يتمكنوا من سحبها معهم. وتمكن الجيش الاردني من الانتصار على القوات الاسـ / رائيلية وطردهم من ارض المعركة مخلفين وراءهم الاليات والقتلى دون تحقيق الكيان الصهيوني لاهدافه.)

اما انا فاتذكر من بين ما تبقى من صور في مخيلتي انني كتبت عن الفدائي ربحي الذي صدم نفسه بدبابة اسـ / رائيلية مرتديا حزاما ناسفا في وسطه فاستشهد على الفور بعد تفجيرها. اتذكر ايضا ما نقلوه لي من اخبار تواترت عن قيام العدو بنقل جرحاه بالمروحيات الى مستشفى هاداسا الذي قالوا انه قريب الى المكان. كانت سعادتي لا توصف عندما فوجئت بنشر بعض مما ظفرتُ به من رحلتي على الصفحة الاولى من «المواطن»، كنت في البيت ذلك النهار لم اخرج ربما لانه يوم عطلة او لانني لم اكن مرتبطا باية التزامات، جاء ابن عمي جرجيس الذي كنت اسكن غرفة في بيت بتاوييني كبير يضمنا وتقطنه خمس عائلات، ليخبرني انه قرا في المعمل شيئا عن مندوب «المواطن» في الاغوار او الاردن او شيء من هذا القبيل، الا ان ما احزنني بعد ذلك انهم لم يضعوا اسمي على خبر الصفحة الاولى، لو كنت ادري لطرقت باب اول غرفة على يسار مدخل جريدة «المواطن» وانا اغادر المكان في المساء الفائت حيث ضياء حسن يصمم وبجانبه فاضل العزاوي واخرين يضعون اللمسات الاخيرة على الصفحة الاولى، لكنت تدخلتُ مطالبا بحقي مع مادة صحفية اعتز بها، قلت في سري: ربما هذا تقليد يمارس مع الصحفيين الشباب حديثي العهد في الصحافة، اقنعت نفسي بذلك، ومنعني الخجل من ان اسالهم بصدد حجب اسمي: «الطمع مو زين». لست ادري!!

 

بين حسب وبرلين..بين ايلول وتشرين

++++++++++++++++++++++++++

   في اواخر العام  1968عملت في جريدة النور البغدادية اليومية منذ بداية صدورها، كانت المرة الاولى التقي فيها  حسب الله يحيى هناك في ايام التاسيس، حيث اختير كمراسل لها في الموصل. وفي غرفة تضم طاولاتنا عباس البدري وهاشم صاحب ونصير النهر ويوسف الياس وانا، كان سالم العزاوي موجودا ايضا، هناك التقيت بابي بدران.... وجدته زعلانا متاثرا اثناء التعارف، بل احسست بذلك فور دخوله، جاء حاملا مادة اوعمودا صحفيا، ضمّنه عبر السطور التي كتبها استهجانا لما قامت به «احداهن» التي لا يعرف اسمها ولا فصلها، عندما نُقل له انها ادت وصلة في ملهى ليلي ببغداد تحت عنوان «يا فدائي بالميدان».. تضامن معه جميع من كان هناك. نعم، المكان لايناسب، وانه امر خارج عن اللياقة والذوق والاحترام، اداء اغنية من هذا النوع في مكان كهذا ونحن ما زلنا نعاني الجرح الذي مس كرامتنا، وقد سارع عباس البدري الى نشر المادة في اليوم التالي وعلى الصفحة الاخيرة على ما اذكر.

  ماهي الا شهور، وتحديدا في ربيع 1969، صرت طالبا في «كلية التضامن الدولية».. مبنى تراثي كبير جميل بغرف وقاعات عديدة في احدى ضواحي برلين الشرقية متمتعا بالزمالة الممنوحة لنقابة الصحفيين العراقيين من «اتحاد الصحفيين الالمان» «المانيا الديمقراطية» قبل سقوط الجدار، معي صحفيون من الشرق الأوسط «العربي» والهند وافريقيا، دار نقاش ذات ظهيرة في استراحة ما بعد الغداء بين زميل مصري واخر افريقي، قال الاخير ما معناه ان اسـ / رائيل هزمتكم انتم العرب مجتمعين، تطور النقاش الى ملاسنة كادت ان تتحول الى شجار لاتحمد عقباه لولا تدخل بعض الموجودين من مدرسين وموظفي الإدارة. شعرنا نحن العرب بالإهانة وبوجع لا يمكن التغاضي عنه عندما وجدنا ان هناك من يعمل على تعميق الجرح اياه بشكل متعمد، وعرفنا فيما بعد ان الطريقة التي قال بها الكلام كانت استفزازية مشينة، وهذا ما جعلنا ننزعج ونغضب، فعقد مجلس الكلية وعمادتها على الاثر اجتماعا فوريا واتخذ قرارا بتوجيه اللوم للزميل الافريقي طالبين منه الاعتذار.. ويبدو انه قد احس بغلطته وفعل.

  في بغداد وابان حرب تشرين 1973 كنا في جلسة ضمت زملاء فلسطينيين وعرب، حيث توالت الصرخات بشكل لافت ومثير مطالبة بعدم توقف الحرب ومواصلة العمل حتى التحرير الكامل، مادام الجيش المصري البطل قد حطم «اسطورة الجيش الذي لايقهر» بعد تمكنه من تحقيق العبور وتحطيم جدار بارليف سيء الصيت، ومادام «ابو خليل» يقاتل وهو بـ «الفانيلة» كما فعل في الحروب السابقة والدبابات العراقية تسير على السرفات كي تنقذ دمشق من السقوط، المدينة التي جمعتني بعد سنوات باشقاء سوريين ثلاثة عبّر كبيرهم واوسطهم عن الامتنان لوقفة ابناء الرافدين، فيما استغرب اصغرهم الامر لانه لا يعرف شيئا عنه.

 وتوقفت حرب تشرين، وظلت ادبياتنا وادمغتنا تركز على «القضية المركزية» للامة العربية، وان لا شيء يجب ان يلهينا عنها،  لكن ومع نهاية صيف 1980 وبينما طبول الحرب تقرع  بوضوح ويسمع صداها في كل مكان نرى فيه الارتال العسكرية تتجه شرقا، فمازال بيننا من يراهن على ان اية حرب لن تقع مع الجارة الشرقية، غير معقول ان ينشغل العراق بها، كان ذلك في جريدة الثورة ونحن نعيش اجواء صيف ساخن ونقاش اكثر سخونة، حيث انقسمنا الى فريقين فريق «ضعيف» اقلية تضمني تقول: لا.. مستحيل! واخر باغلبية تفيد: نعم ستقع الحرب. الا ان الفريق الاخير لم يخطر في باله على الارجح بان الامر سيستغرق اعواما ثمانية!

الان وفي ختام موضوع لا يختتم، نرى ان «فلسطين» في مفترق طرق مثلما عرفناها في خضم احداث وتطورات كبيرة شهدتها المنطقة عبر زمن يمتد لعقود خلت بات يعرفها القاصي والداني، الان واسـ / رائيل تفعل ما تفعله وما ترتكبه من دمار وحشي في حريق غزة، ومع تداعيات ماحصل في 7 اكتوبر الماضي»2023»، استعيد منشورا لي في نوفمبر تشرين الثاني من العام ذاته مشيرا الى كتاب «المحدال» بالعبرية اي « التقصير»، بغلاف يحمل صورة كبيرة لغولدا مائير رئيسة وزراء اسـ / رائيل ابان حرب تشرين 1973 والذي «رصد اخطاء اسـ / رائيل وسبب هزيمتها في حرب اكتوبر» وتضمن شهادات عن «حرب الغفران»  «كما راها صحفيون اسـ / رائيليون ممن خدموا كمراسلين عسكريين او ضباط احتياط خلال الحرب» و» كما رواها اشخاص مطلعون على بواطن الأمور..».. كان المنشور تحت عنوان: «بين اكتوبرين.. من سيكتب هذه المرة؟» .. وختمته بسؤال يليه: «وماذا سيكتب؟»

  هل فقدت ذاكرتي بعض ومضاتها بعد هذا العمر كله؟

   ربما.. لكنني سأبقى أتذكر اغنية «مائدة نزهت» مع كل عيد، ولن انسى لحن محمد عبد الوهاب ايضا..

 


مشاهدات 136
الكاتب رياض شابا
أضيف 2024/06/24 - 4:29 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 8:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 260 الشهر 10928 الكلي 9361465
الوقت الآن
السبت 2024/6/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير