ثقافات الشعوب في الميزان
لويس إقليمس
تُعدّ ثقافة الشعوب والأمم من بين الأسس التي تُبنى عليها المجتمعات وأركانُ حكمها وسلوكيات بشرها. وعلى ضوئها يستطيع الإنسان العاقل أن يقيس مستويات أخرى تدخل في كينونتها الحياتية وتشكلُ هويتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الكثير من الأحيان. وكما أن الدّين والمذهب يحتلّان المقام الأول لدى بعض الشعوب المتعصبة والمنغلقة التي ترى في هذين العنصرين مادة دسمة للنقاش الناقص والمتحيّز والفارغ في أحيانٍ كثيرة، فإنهما غالبًا ما يقفان حجر عثرة أمام تقدّم مواطنيها وارتقائهم سلّمَ الحياة المتجددة المعاصرة التي تتطلعُ عادةً إلى الأمام ولا تنظرأو تحينُ إلى ما تركته ما قبلها، خاصةً من تركة مثقلة بالهموم والجدل والإشكاليات التي لا نهاية لها بحق أبنائها وتابعيها. وهذه من خبرة الحياة. وخيرُ دليلنا ما وقعت وماتزالُ تقعُ فيه شعوب المنطقة العربية، والإسلامية خاصةً، بشيءٍ من الجدلية الفارغة والنزعة الضيقة التي لا تخلو من إشارات طائفية في الكثير من أحداثها وإرهاصاتها من أجل تثبيت الماضي بكلّ عواهنه وموارباته وتخلّفه الواضح. حينها يصيرُ الحكم على أشكال هذه الشعوب بكونها من زمن الماضي الذي يرفض التغيير والعصرنة والتقدّم. ومن الطبيعي إزاء هذه الإشكاليات المجتمعية والثقافية الكبيرة أن تسقط دولٌ وشعوبٌ بين براثن التخلف والتراجع لتخسر ما كان في خزينها من ثقافة وإرث وحضارة في زمنٍ مضى.
إن ثقافة الشعوب لها مقاييسُها وأركانُها وهي لا تخلو من قيم سابقة اتسمت بها مجتمعات عرفت طريقها إلى الثقافة والمدنية والعلم والمعرفة والتقدّم على غيرها من شعوب الأرض في حقبٍ ماضية، كما هي حال العراق والعراقيين. وإن كانت اللغة والشواهد الدينية ورموزُها في بعض الأحيان، وكذا الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية المتوارثة تشكلُ طيفًا رمزيًا لبعض الشعوب والأمم، فهذه لا يمكن التعويل عليها في مسألة ارتقائها إلى الدرجات المتقدمة في الحياة العامة بكلّ اشكالها، ومنها بطبيعة الحال شكلُ السلوك السياسي لحكوماتها ونوعية ساستها وطبيعة مؤسساتها، هذا إن وُجدت في حقيقتها أصلاً. وعندما تُسنح الفرصة للدخول في نقاش الفرضيات المطلوبة لتطوّر البشر في مجتمعٍ أو بلدٍ أو منطقة، ويتدخل أصحاب الفكر المشوّش الناقص والمتخلّف في إدراك مقتضيات الحياة العصرية المتزنة لوأد أية مساعي للتغيير والإصلاح، إصلاح الذات أولاً والمجتمعات معًا، حينذاك تقف عجلة الثقافة في حيرة لتتعثرَ مفاهيمُها ومساعيها في إحداثِ أيّ تغييرٍ ضروريّ لتقدم الشعوب بأفعالها وأفكارها واستثمار معارفها وقدراتها البشرية والمادية على السواء. ولكن لا ينبغي بأيّ حالٍ من الأحوال أن تظلّ قيمُ التباهي بالماضي والنزعة لاستدرار معالمِه في كلّ شاردة وواردة وكأنها الملاك الذي لا يُستدرك في أية خطوة أو مرحلة أو قرارٍ. فلكلّ مرحلة ولكلّ حقبة زمنية قيمُها التي تبقى رهينة حاجة الشعوب إليها وفق الزمان والمكان والحضور الإنساني الذي يجعل من البشرمركز الحدث وهدفَه وغايتَه وليس تلك القيم التي قد يفرغُ محتواها مع مرور الزمن وحاجة البشر. فهناك مثلاً، قيمٌ وأعرافٌ سطت عليها المشاعر والأهواء العشائرية التي جعلت منها موردًا مضافًا للكسب الحرام غير المبرّر. وأي انتهاكٍ لها من قبل البعض المتعلّم وأعلام الثقافة وأصحاب الفكر والرأي الآخر، يكون مصيرُه الاتهام بالتمرّد والتعرّض لعقوبات والمقاطعة وإنهاء الحياة أحيانًا. هكذا أصبحت القيم العشائرية لدى بعض مجتمعاتنا بسبب الفوضى التي خلقها الغزو الأمريكي بعد 2003 في العراق بسبب الاختلال في التوازن الحياتي والمجتمعي الذي خلقته فترة السقوط المأساوي للحكم البائد بتلك الطريقة البشعة وغير المنصفة.
الهوية المجتمعية
لكن مهما حصل ويحصل، تبقى الهوية المجتمعية الناصعة المنفتحة التي تقبل بالمتغيرات الإيجابية المنتجة خيرَ دليلٍ على ثقافة الشعوب ومدى تأثير هذه الأخيرة في الحياة العامة والسلوك المجتمعي والتقدّم الذي يضرب المدينة أو البلد أو المنطقة. أي ما يعني أن يصير الانتماء لهذه الهوية، لاسيّما الوطنية الصحيحة منها، جزءً من ثقافة ذلك المجتمع. ولن يشعر الفرد بقيمته وقدرته على التفاعل مع شكل هذه الهوية الطبيعية الصادقة، مجتمعية كانت أم وطنية أو دينية، سوى بالتفاعل المتبادل المتحضر مع الغير الذي يتطلبُ منه الحرص الشديد على قبول الرأي الآخر والفرد الآخر المختلف عنه في شكل الحياة والثقافة والجنس ربما. وهذا ممّا يستوجب عدم النزوع إلى إلغاء الآخر المختلف بسبب الاختلاف في شكل الهويات ومحتواها وغاياتها عندما تتعدّد الهويات دونما تقاطع في الأهداف السامية التي تسعى جاهدة للبناء والإعمار والتقدّم بدل الهدم والتفليش الحاصل أمام أعيننا في هذه الأيام منذ زمن السقوط الأغبر. فما يجمع هذه جميعًا، هو الحوار المنعش المتجدّد والنقاش الإيجابي لاسيّما في حالة الانتقال من مجتمع إلى آخر مختلف عنه في السلوك والأهداف والغايات. وهذا من قيم الوعي والإدراك العالي لمسؤولية كلّ فرد في الحياة العامّة. من هنا، يصعب على المجتمعات المتطورة والمتقدمة أن تقبل بين صفوفها أفرادًا أو جماعات لا ترضى بهذه السياسة.
والسلوك في النظرة إلى الحياة والبشر وفي سعيها للارتقاء ببشرها القائم على أرضها، مهما كانت جنسياتُهم وانتماءاتُهم الدينية والمذهبية والإتنية والمناطقية ومهما تعددت أسباب تواجدهم في تلك اللحظة. فالكل في ظل الأنظمة السياسية الليبرالية المتحررة والديمقراطية التي تحترم مواطنيها والمتواجدين على أراضيها، متساوون في الحقوق والواجبات. فلا سيادةَ لطيفٍ على آخر إلاّ بالارتقاء بالعمل الصالح المنتج والعيش المشترك الصحيح والسلمي من دون تعالٍ أو سطوةٍ لطرف على آخر. ولكن عندما يصعبُ النقاش ويُغلق باب الحوار ويغيب الوعي والإدراك لمفهوم العيش المشترك والسلمي الآمن، حينئذٍ ندرك أنّ هناك مشكلة. فالحوار والنقاش في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يرتقيا إلى مفهوم الوعي والشعور بالمسؤولية، الوطنية والاجتماعية والدينية، سوى بالتفاهم على الضرورات الأساسية التي تحفظ حقوق الجميع. ومتى غاب الوعي في القبول بما يُعرف بالتنوع الثقافي الذي يُعدّ عادةً مصدرَ غنى وثراء لأي مجتمع أو بلد، حينئذٍ يصعب العيش المشترك في هذا الوسط لكون صاحب الرأي المتزمت والفكر الجاهل المتخلّف لا يقبل بشكل وطبيعة هذا الاختلاف الذي خلقه الباري تعالى غنىً للشعوب والأمم. كما أنّ ايَّة مساعٍ للدخول في حوارٍ مُجدي ونافع مع أصحاب الفكر المنغلق يُعدُّ انتحارًا اجتماعيًا بل خسارةً في الجهد والوقت إن لم يكن أشبهَ بصراعٍ مع صخورٍ صمّاء تتفاخر بردّ ضربات المطارق التثقيفية فوقها من دون جدوى، وكأنك «تصارع خنزيرًا في الوحل، فتتسخُ أنتَ وهو يستمتعُ بالمقابل»، كما يقول المثل الانكليزي.
هناكَ مَن يعزو مثل هذه المفارقات في التفكير والثقافة والقناعة والإيمان بالوجه الآخر المنفتح على العالم وعلى الثقافات المختلفة النابعة من اختلاف الحضارات بين الشعوب والأمم، إلى شكل التربية المنزلية أولاً والمدرسة ثانيًا والمجتمع من بعدهما. فما بدأتهُ العائلة في كنفها في شكل التربية والتنشئة ينسحبُ على الأغلب على حياة الأبناء في حياتهم وسط البيئة التي يعيشون فيها. فيما تُكمل المدارس والمعلمون والمرشدون فيها باقي التنشئة المجتمعية والمعرفية والعلمية ليخرج منها بشرٌ يعرفون قيمة الحياة ويقدّرون شكل الاختلاف في السلوك والعمل والتفكير والرأي وسط المجتمع والبيئة التي يكونون فيها، من دون تردّد أو خشية لكونهم مسلَّحين بالمعرفة والعلوم والسلوك الاجتماعي الجيّد الصحيح. وهذا بعكس مجتمعات فقدت هذه الخاصّية التي كانت عليها بالأمس القريب. ومن المؤسف الحديث عن فقدان العراق لهذه الميزة الراقية في بيئته المجتمعية بسبب فقدان وتدمير أركان التربية الأولية الصحيحة التي تبدأ من البيت الأسري، وتكملُه المدرسة التي من بين واجباتها تشذيب سلوك الطفل وتهيئته لدخول معترك الحياة العامة مسلَّحًا بكل ما يحتاجُه من معرفة وتنشئة وعلوم وسلوك صحيح وقيم مجتمعية صالحة في حياته العامة.
وهذا ما تُفصحُ عنه حالة الأجيال الراهنة من تراجعٍ في القيم والمعارف والمواطنة من بعد سقوط البلاد والعباد تحت سطوة الغازي الأمريكي ومَن أتى بهم برفقته وبحمايته وبتفاهمٍ سيّء الصيت مع دول إقليمية معادية ومن المتعاونين معه من «مقاولي تفليش البلاد» وناهبي ثرواتها بحيث لم ولنْ يبقوا للأجيال اللاّحقة ما يحق لهؤلاء ممّا يتبقى في الوطن من خيرات ليست له بل للغرباء والدخلاء والطارئين. وهذا في جزءٍ كبيرٍ منه يعود لفقدان البلاد أركانَ المعرفة الأساسية والتربوية والتراجع في الأخلاق والقيم المجتمعية الأصيلة التي سادت سنوات ما بعد السقوط، حيث اختلفت المفاهيم وغابت القيم واختلّت الموازين مع انتشار أشكال الشرّ والفوضى والسلاح المنفلت والجماعات المسلحة وأصحاب الفكر الطائفي الضيّق وسط فساد الساسة وأحزاب السلطة التي تحتكم إلى المحاصصة والاتفاق والتوافق في أيّ شيء وكلّ شيء. هذا إضافةً إلى غياب الرقابة الوطنية والمجتمعية الصحيحة على وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تستطع احتواء أصحاب المحتوى الهابط والنشر السيّء وسط هذه الشريحة من الأجيال الأخيرة خاصة، بسبب ضعف الدولة ومؤسساتها الهزيلة، وكذا بسبب التراجع أو المجاملة والمحاباة في تطبيق القانون على الجميع سواءً بسواء. كلّ هذا خلقَ مجتمعات ضعيفة فقدت ثقتها بأجهزة الدولة وبأية حكومة تدّعي الإصلاح في بداية قدومها، لكن سرعانَ ما تنساقُ للواقع الفاسد في مجاملة الفاسدين والتستّر على السرّاق واللصوص. ففي النهار تجدهم خلية نحلٍ في الادّعاء بمحاربة الفساد والفاسدين، وفي الليل تحلو لهم معًا السهرات في أحضان الحسان وتنظيم الحسابات الخاصة وترتيب المغامرات الفاسدة وتقسيم المكاسب والمغانم.
ننتظر تصديق توقعات العرافة الجدلية «ليلى عبداللطيف» كي نحصدَ ما تراه نهايةً للحالة المأساوية في العراق في هذه السنة ولاحقتها على أبعد تقدير!