الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ضد العقلانية.. محاولات لترسيخ مفهوم التخيل

بواسطة azzaman

ضد العقلانية.. محاولات لترسيخ مفهوم التخيل

نوزاد حسن

 

لا ابالغ لو قلت ان الرصافي كان جريئا جدا في حديثه عن خيال النبي عليه السلام.ولم يتجرأ الباحثون على الحديث عن ملكات النبي النفسية قياسا بصفاته وخصاله فيما يعرف يالشمائل المحمدية.لقد اشار الرصافي الى ان النبي (ص) كان يتمتع بخيال قوي.يقول الرصافي»كان محمد واسع الخيال قويه,وكان تفكيره وخياله فرسي رهان يجري احدهما مع الاخر.فاذا تفكر في امر تخيله وتصوره,واخذ يصوره للعيان,حتى كانه يراه بعينيه,ويسمعه باذنيه, ويلمسه بيده»(1)

بعد هذا الكلام يبدأ بضرب الامثلة التي تصور ما كان الرصافي يراه قوة في خيال رسول الله (ص).ومع اني اختلف مع الرصافي في ما قاله الا اني استطيع القول انه اي معروف الرصافي هو اول من اشار الى قضية الخيال عند النبي (ص).وقد يكون سبب اختلافي مع الرصافي راجع الى فهم معنى الخيال بصورة عامة,ووظيفته في حياة الانسان بصورة خاصة.لقد حاول الرصافي ان يبرهن على فرضيته الجريئة القائلة ان القران الكريم هو نص بشري مكتوب من قبل رسول الله (ص).ومن هنا كان لا بد ان يكون النبي (ص) انسانا واسع الخيال لتتم اركان فرضية الرصافي.فبدون دور الخيال ستفقد نظريته قوة اقناعها.

وليس من المستغرب ان يعثر القاريء على مقال لافت للنظر عنوانه «الخيال في رسالة الغفران»تساءل فيه عباس العقاد ان كانت رسالة المعري»قصة تاريخية ام بدعة فنية..؟وهل العمل الاكبر فيها للخيال او للاطلاع والدرس..؟وهل كان المعري فيها شاعرا مبتكرا,او كان قاصا اديبا,وحافظا يسرد ما قد سمع,ويروي عمن سبق.؟والصواب في امر هذه الرسالة انها كتاب ادب وتاريخ وثمرة من ثمار الدرس والاطلاع.ليست بالبدعة الفنية ولا بالتخيل المبتكر»(2)

لباقة منطقية

لكنه -اعني العقاد- وبعد عدة اسطر يحاول بلباقته المنطقية النادرة ان يبرر كيف ان المعري كان لا يحب ان يوصف بانه صاحب خيال,بل»لعله كان يكره ان ينسب الى اهله,ويراه منافيا للصدق مخالفا للامانة في القول.ويحسب المحاسن المتخيلة من باطل الزخرف ولغوالكلام.(3)

لقد حاول طه حسين ان يعيد للمعري- الذي كان معجبا به ايما اعجاب- ملكته الفنية التي سلبه اياها العقاد.ولكي يكون طه حسين منصفا وواضحا فقد اشار منذ البداية الى ان العقاد تورط في قضية نفي الخيال عن رسالة الغفران,واستغرب ان يقع كاتب كالعقاد في خطأ كهذا.(4).وكان لا بد ان يقدم طه حسين تعريفا محددا للخيال ليتمكن من اثبات ما نفاه العقاد.قال في فقرة مهمة جدا لم تاخذ نصيبها من الدراسة والبحث.» وما الخيال؟ أما إذا كان الخيال ملكة تمكن الكاتب أو الشاعر من أنْ يخترع شيئًا من لا شيء أو يؤلف شيئًا من أشياء لا ائتلاف بينها، فلم يكن أبو العلاء على حظ من الخيال؛ لأنه لم يخترع في رسالة الغفران شيئًا من لا شيء ولم يؤلف بين متناقضات،ولكنا نعلم أنَّ علماء النفس لا يسمون هذه الملكة خيالًا وإنما يسمونها وهمًا، وهم ينبئوننا أنَّ الخيال لا يخترع شيئًا من لا شيء، وإنما يستمد صوره ونتائجه من الأشياء الموجودة يؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النفس ويفتنها.وإذا كانوا صادقين — ونحسبهم صادقين — فحظ أبي العلاء من الخيال في رسالة الغفران لا حد له، ليس لأبي العلاء حظٍ من الخيال، وإذن فماذا يلذنا من رسالة الغفران؟ ولمَ يعجبنا حوار هؤلاء الشعراء والعلماء وذكر الجنة والنار وما فيهما؟ أليس لأن خيال أبي العلاء الخصب القوي قد استطاع أنْ يؤلف بين هذا كله تأليفًا غريبًا قيِّمًا لذيذا.(5)

لو قلت بان هذا الحوار النقدي بين طه حسين والعقاد هو اهم لحظة معرفية تنويرية في ثقافتنا الحديثة لما اخطأت في كلامي.ومع الاسف فان ثمرة تلك اللحظة العميقة جفت دون ان تفعل فعلها فينا كبشر محدودي القدرة.كان هذان الكاتبان الكبيران يتحدثان وحيدين والثقافة العربية تبتعد عنهما لانها ثقافة اغرقت نفسها بوحل الجدل والنقاشات العقيمة المكررة التي لا تفيد في شيء.لم يتوقف احد عند لحظة طه حسين والعقاد لذا ظل الخيال ملكة غامضة تختلط تارة بالوهم,وتارة اخرى يعد الخيال شيئا قريبا من الحلم او الابتعاد عن الواقع.ومن هنا نجد ان ما قاله طه حسين كان ثوريا بكل معنى الكلمة.فقد تطرق الى تعريف مفهومين غامضين عندنا اليوم غموضا كبيرا هما الوهم والخيال.

ان الحقيقة التي يمكن ان نكتشفها من ذلك الحوار التنويري هي ان الانسان ليس كائنا مسطحا يعيش بعقله متناسيا طاقاته الانسانية الاخرى.لذا اود القول ان ما قاله طه حسين في تفرقته الوهم من الخيال كان محاولة لشرح معنى هذا الانسان الذي حرمته الثقافة العربية من خياله حين جعلته كائنا عاقلا.واستخدم بعض الكتاب والمثقفين النص الديني لاثبات ان الانسان كائن كرمه الله بالعقل وانعم عليه بهذه النعمة العظيمة.في دائرة مثل هذا التفكير الجامد السطحي مات الخيال,اوعلى الاقل صار ينظر اليه على انه ليس بذي قيمة او فائدة لانه لا يصل الى قوة العقل ووضوح منطقه واستنتاجاته.ومع اني اشرت سابقا الى ان طه حسين هو كاتب عقلاني يؤمن بالفرضيات واثباتها ثم دحضها الا انه لم يقف ضد فكرة الخيال,وكذلك فانه كان يستخدم المعرفة العلمية لفهم الانسان فهما عميقا.

لو توقفنا الان عند كلمة الوهم وتعريفها في علم النفس كما شرحها طه حسين فماذا ستكون النتيجة الادبية لكثير من الكتب والدواوين التي يحتفي بها اصحابها ويتفاخرون.بلا شك ستكون النسبة الكبيرة من تلك الاعمال عبارة عن نصوص تقوي الوهم وتزيد جرعته عند القراء,وهم لا يعرفون مؤلفين وقراء انهم يقتسمون وهما لغويا اسمه رواية وديوان شعر.وانا اضرب مثلا بنص شعري قصير جدا يفتقر الى التجربة والصياغة الفنية لجان دمو يقول فيه:

حبيبتي

فمك حمار كهربائي

حيث اسناني تسافر مع الريح.

  كيف يمكن ان افهم نصا غريبا كهذا النص الذي سجد له الكثيرون,وتعاملوا مع نصوص تشبهه بمجاملات لا تطاق..؟لو عدنا الى الحوار الفكري بين العقاد وطه حسين الذي تحدثت عنه قبل قليل لادركنا المشكلة التي قتلت الذوق العربي طيلة قرون وقرون.

  لم يكتشف احد ان نص جان دمو الباهت ينتمي الى الوهم الشعري لا التخيل الفني الجذاب.البعض ممن يعرف كيف يلفق مقالا وقف من نص جان دمو وقفة سائح امام كوب سومري.نعم هذا النص هو عبارة عن وهم وليس شعرا حقيقيا.وعلى القاريء ان يعرف كيف يفرق بين الوهم والخيال.وانا اجزم مرة اخرى هنا ان التمييز بينهما صعب للغاية لسبب بسيط هو ان الثقافة العربية والتراث العربي لم ينشغل كثيرا بتحليل الانسان وقواه وطاقاته الداخلية.لكن الغرب لم يقف كما وقفنا عند فكرة الانسان الابسط الذي يمتلك عقلا جبارا هو نعمة من الله اليه.هذا التبسيط ابعدنا عن فهم انفسنا,وصدقنا ان العقل هو القوة الوحيدة التي علينا ان نسير معها,ونصدق بنتائجها.من هذا المنطلق يمكننا ان ندرك محنة الدكتور علي الوردي بكامل تفاصيلها.لقد حاول عالم الاجتماع الكبير ان يعلم الناس فن معرفة الذات حين كتب كتابه «مهزلة العقل البشري» باسلوب مبسط يفهمه المثقف وغير المثقف.

ببساطة شديدة صدم علي الوردي الناس حين بين في كتابه ان الابحاث العلمية الحديثة «تكاد تجمع على خطا هذا الراي حيث ثبت اليوم ان العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع,وهو لا ينمو او ينضج الا في زحمة الاتصال الاجتماعي»(6)

  ان هذه الفكرة الحادة كسكين تجرح كل الذين يؤمنون بان العقل هو هبة الله لنا.العقل كما يراه الوردي مجرد اداة تتشكل بتاثير الواقع الاجتماعي الذي يلون العقل بما يشاء من الوان في مجتمع معين.لكن الراي الاخطر هو ما كشف عنه الوردي في الصفحة التالية من كتابه مهزلة العقل البشري حيث يقول:»تشير الابحاث الحديثة الى ان التعصب صفة اصيلة في العقل البشري وان الحياد امر طاريء عليه.وهنا قد يصح ان نتمثل بقول الشاعر:

تعجبين من سقمي

صحتي هي العجب

وجود التعصب

فنحن لا يجوز لنا اذن ان نعجب من وجود التعصب في عقل الانسان الاولى بنا ان نعجب من وجود الحياد فيه.ان العقل يفكر استنادا على  بعض المقاييس السابقة ومن الصعب ان يفكر العقل على اساس غير مالوف(7).

كان بيننا وبين تاسيس مفهوم التخيل وشرح وظيفته النفسية ودوره في حياة الانسان مراحل لم يقلصها احد بالدراسة والبحث.

ان الخيال يتطلب تدريبا نفسيا كي يتطور,وهذا شيء لم يحصل ضمن اطار الثقافة العربية التي غلب عليها طابع الجدل الديني,والفكري.ومع ان العقاد وطه حسين خاضا حوارا رائعا قبل عقود في وظيفة الخيال الفنية الا انهما لم يتابعا عملهما في تطبيق ارائهما العميقة وتحليل النصوص على ضوئها.

وهكذا بقيت الحياة تخضع لفكرة العقل الفاحصة التي تميز الانسان عن الحيوان.

   لذا نستطيع وبسهولة ان نبني نتيجة اخرى على نظرية الوردي عن العقل وتعصبه ونضيف اليها ان العقل يصنع الوهم الشعري.وهذه النتيجة تفيدنا في فهم النصوص الشعرية على اختلاف ازمانها.ان نص جان دمو هو افضل الامثلة على سيطرة الوهم الشعري جراء خضوعنا المستسلم لطغيان العقل.ومن الغريب ان كتابا مروا وتوقفوا عند هذا النموذج وغيره دون ان ينتبهوا الى ان القصيدة او النص الشعري يمكن ان يكون نصا وهميا ولا علاقة له بالفن.ومن هنا يمكن ان تفيدنا التفرقة التي وضعها طه حسين بين الوهم والخيال,الا اننا لم ناخذ بتحديد مصطلح الوهم ولا التخيل.ولعل متابعة بسيطة لما ينشر في الصحف والكتب تبين لنا مدى غموض هذين المصطلحين الفنيين.لكن اهم ما خسرناه هو الجهد الفكري للدكتور علي الوردي الذي اوضح لنا معنى العقل,وارتباطه بالتعصب دون ان نقوم بتامل افكاره ومحاول الاستفادة منها,وتطبيقها على لغة الحديث اليومي,او على مقالات الصحف,وعمل الفضائيات,والشعر والرواية.

      ان العقل كما نظر اليه الوردي سمم حياتنا الاصيلة,وخدعنا اذ لم نعرف ان الوهم هو من صناعته.ومن هنا قرأنا نصوصا كثيرة باسم الشعر وهي براء منه.والادهى من هذا اننا لم نفكر جيدا في ذلك الوهم فسميناه بالمبالغة الشعرية.وفي الشعر القديم والمعاصر تكون المبالغة الشعرية اسما اخر للوهم.مثلا يقول المتنبي:

كفى بجسمي نحولا انني رجل

لولا مخاطبتي اياك لم ترني

هذا البيت الشعري هو وهم بحت سمي في البلاغة بالمبالغة الشعرية.وهناك عشرات الامثلة على المبالغات والصور الشعرية التي انتجها العقل في شكل شعري او روائي لكننا لم نستطع الحديث عنها كاوهام تعلمنا الزيف والكذب الفني.وربما يكون نموذج جان دموا وضح الامثلة على ذلك.

  لا اشك لحظة واحدة ان ما قام به علي الوردي من هجوم على اهم نعمة عند الانسان كان خطوة ثورية وجريئة في الوقت نفسه.ولا تقل ثورة الوردي ضد العقل عن حوار طه حسين مع العقاد وتفرقته بين الوهم والتخيل.هذا الموقفان اصيلان وان لم يحركا الوعي النقدي عند الاجيال التي جاءت فيما بعد.ولو ان افكار علي الوردي عن تعصب العقل انتشرت,ووجدت لها صدى طيبا لما حصل في المجتمع العراقي هذا الخراب الطائفي الواضح.

  وبلا اية مبالغة اقول ان امريكا اللاتينية تلك القارة الغامضة اعادت الاعتبار الى اهم ركن في ميراث الرومانسيين الذي انطفأت نار فنهم في نهاية القرن التاسع عشر واعني به الخيال.واذا كانت امريكا اللاتينية ارض الاساطير والانقلابات,والدكتاتوريين,والثروات فانها موطن الواقعية السحرية التي اعادت للخيال دوره الحقيقي الذي كان مجرد اسلوب فني وظيفته اعادة صياغة الواقع,لكن تلك القارة الرائعة طورت مفهوم الخيال كثيرا حين جعلته طاقة وظيفتها ارباك وتحطيم سكونية العقل البشري وسيطرته.وهذه حكاية بورخس ورسالته الانسانية التي قدمها للعالم.وقد لخص الروائي يوسا تاثير بورخس على كتاب امريكا اللاتينية قائلا»كنت اقرا بورخس منذ ان اكتشفته ودائما باعجاب كبير,وهذا الانتباه ترك نوعا من العلامة فيما كتبته.رغم انني لا اقدر ان اقول في اية مناطق محددة هي ظاهرة.تاثر كثير من كتاب امريكا اللاتينية ببورخس,وتاثيره في غابرييل غارسيا ماركيز واضح.لكن تاثير بورخس في قصص خوليو كورتاثار يبدو اكبر,لان حضور بورخس لا يتجلى في الاسلوب وانما ايضا في نسق تحويل الواقع اليومي الى فانتازيا محضة.ان الية تحويل الواقع الحقيقي الى خيالي هي الية برخيسية.اثر بورخس بشكل كبير على الكاتب المكسيكي خوان خوسيه اريولا الذي يعتبر من كتاب الفانتازيا الجيدين»ذاكرة شكسبير,ماريو بارغاس يوسا»ص8.

    نعم كل هذا دقيق وحقيقي لكن التاثير الاعمق لبورخس كما ارى يتجلى في خلق مزاج جديد لدى كتاب امريكا اللاتينية.وقد يكون افضل تعريف لكلمة المزاج هو النظر الى العقل على انه شيء يختلف عن الخيال,وعلى الانسان ان يكتشف دور الخيال واهميته في حياته.لذا فان كل قصة او قصيدة لبورخس لا يجوز ان تقرا الا في اطار هذه الحقيقة المهمة وهي ان نصوص بورخس تعلمنا كيف نضع حاجزا بيننا وبين سلطة العقل الذي يريد ان يجعل الحياة عبارة عن رحلة افقية في عالم محدود الافاق.بورخس حطم هذا العقل الواثق من نفسه,وقدم لنا فكرة اخرى ضرورية جعلتنا نرى ان الخيال لا يقل عن العقل اهمية وفائدة.هذا الاختلاف بين العقل والخيال هو الثورة الحقيقية لما قام به الشاعر الارجنتيني.وهذا ما عنيته حين تحدثت عن المزاج الفني الجديد الذي نقله بورخس الى ادباء امريكا اللاتينية والعالم.ومن المؤسف انني لا اجد ذلك التاثير واضحا في الادب العراقي على الرغم من ان الجميع يشهدون لبورخس بالعبقرية لكنهم يتحدثون عنه بغموض شديد,ولا يعرفون حقيقة ما كتب.

    *******************

1-           معروف الرصافي-كتاب الشخصية المحمدية-منشورات الجمل-الطبعة الاولى2002 ص95).

2-           عباس العقاد- مطالعات في الاداب والفنون-منشورات المكتبة العصرية-بيروت-ص70

3-           مصدر  ص71

4-           طه حسين-حديث الاربعاء-جزء ثالث-مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة-القاهرة- ص 673»

5-           مصدر سابق جزء 3 ص674

6-           علي الوردي- مهزلة العقل البشري-انتشارات الشريف الرضي-الطبعة الثانية-1479ص127

7-           مهزلة العقل البشري ص128-129

 


مشاهدات 226
الكاتب نوزاد حسن
أضيف 2024/06/12 - 11:22 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 2:27 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 306 الشهر 11430 الكلي 9361967
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير