الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صناعة الذات الإبداعية

بواسطة azzaman

صناعة الذات الإبداعية

عبد الستار البيضاني

لا يمكن الركون إلى أية صفة ان نطلقها على الأنسان عموما، والمبدع خصوصا ، مالم تكن ذات صلة به،ومستنبطة من مسيرة حياته، وعلى وفق هذا القول، فانني كنت ومازلت أقرن أسم الناقد الراحل رزاق ابراهيم حسن بصفة متعددة الأوجه هي ؛ ( الناقد الكادح ) التي تنزاح الى صفات أخرى مترابطة المعاني تجسدها حياة وتجربة ناقدنا الراحل لتعطينا أنموذجا لصناعة الذات الابداعية، وهي خصوصية تُحسب له تجمع بين الحياتي والإبداعي. وإذا كانت كلمة (كادح ) تحيلنا الى ميادين العمل، والكد لتوفير مستلزمات إدامة الحياة ، واعني بها ميدان عمل الشغيلة، وطبقة العمال الكادحين، ومعانيها ودلالاتها المعروفة في سرديات السياسة والمجتمع، فان حياة فقيدنا كانت كذلك، مثل غيره الكثير من المبدعين في العراق والعالم ، لكن ان تقرن هذه الصفة بالنشاط الابداعي، فأنها ستأخذ دلالات أخرى . بين الجدية والمزاح كان البعض يلقبه ب( الناقد العمالي )،وهذا شيء كان يزعجه ليس ترفعا على العمال ، وإنما لأنه يقيد إبداعه ، ويضعه في خانة محددة ، ويحرمه من مساحات إشتغالاته الأخرى، مع ان المصطلح لم يأخذ شرعيته ورسوخه ، لأن وجود هكذا مصطلح ، سيعني وجود ناقد فلاحي ، وناقد طبي .. الخ .اقول هذا كي أؤكد انني لا أعني  أبدا بكلمة (الكادح ) ميدان العمل الشاق، وإنما ميزة الجدية والتعب والكد والدأب والإنقطاع الى نفسه ، وهو يلاحق النتاج القصصي العراقي قراءة ونقدا، أكثر من الاهتمام بالتنظيرات النقدية التي يجدها البعض مناسبة لاستعراض الثقافة الشخصية،وأغلب  كتاباته النقدية ذات طابع احتفالي بالمنجز من دون ان تفقد موضوعيتها، ونجد في هذا تعبير عن التصالح مع النفس والأمانة في العمل، وقد لمسته  وتابعته لاحقا ، منذ ان كتبَ عن مجموعتنا القصصية المشتركة ( أصوات عالية ) التي صدرت في العام 1983 مقالا نشره في جريدة الجمهورية ، وقد اعتبرناه نحن اصحاب المجموعة، كما اعتبره غيرنا، موقفا شجاعا منه .

مشهد ثقافي

 فقد كان أول مقال نُشر عن هذه المجموعة التي نظر اليها البعض بتحفظ كونها لم تتناول موضوعة الحرب ، في وقت كان المشهد الثقافي العراقي كله يعيش التعبئة للحرب، وقد تبعه آخرون بالكتابة وكأنهم كانوا ينتظرون مبادرته أولا .!ينتمي الناقد رزاق ابراهيم حسن الى جيل الستينيات النقدي، بالرغم من أنه بدأ شاعرا في خمسينيات القرن الماضي، منطلقا من مدينته النجف الأشرف مكان ولادته،التي كانت واحدة من المدن التي شهدت أرهاصات هذا الجيل ، سواء من خلال صدور مجلة ( الكلمة ) التي أحتضنت نتاجاتهم، وتبنت اطلاق ( مصطلح الجيلالستيني ) على المجموعة التي كتبت ونشرت نتاجها الابداعي في تلك الفترة ، أو من خلال الاسماء الادبية المعروفة من أهالي النجف ، الذين كان هاجسهم التغيير،والتفرد، والتمرد على الاتجاهات الادبية السائدة ، من أمثال موسى كريدي ، عبد الأمير معلة ، عبدالأله الصائغ ، وزهير غازي زاهد ، وموفق خضر ، وكامل الشرقي وغيرهم ، وربما هذا هو الذي يفسر لنا كيف لعامل يشتغل في معامل الطابوق، بلا تحصيل دراسي أستطاع أن يحقق هذا الحضور في الحياة الثقافية!، ربما كان من حسن حظه انه ولد في مدينة تتنفس الأدب بمختلف اتجاهاته ، وإذا أُجيز لنا أن نطلق تسمية ( اديب مسلكي ) تشبها بكلمة (موظف مسلكي ) التي تُطلق على الموظف الذي يتدرج في مراتب،ودرجات الوظيفة من الأدنى الى ألأعلى ، فيحق لنا ان نطلقها على الراحل رزاق ابراهيم حسن ، الذي اخذ ثقافته بجهد شخصي طموح ، من خلال عمله في مطبعة الغري النجفية المعروفة ، واشتغاله بالتصحيح اللغوي في (مجلة الكلمة)، الرائدة لجهة الترويج لمصطلح جيل الستينيات،والتي تجد على صفحاتها انعكاسات ضجيج وفوران هذا الجيل في العالم العربي، والعالم عموما، بمعنى ان رزاق ابراهيم حسن خرج من رحم الحياة الثقافية في ذروة نشاطها ليجد نفسه في أولى مراحل بناء الاديب والصحفي الصحيحة ، وأعني به العمل بوظيفة ( مصحح لغوي )، وهذا يعني اطلاعه على كل ما يٌنشر بالمجلة ، ولعلها مفارقة ان يجد نفسه مصححا لأصحاب الشهادات ، وهو بلا تحصيل دراسي ، لذلك جاء الى بغداد وهو مسلح بالموهبة والتجربة ، ما مكنه من ان يجد له مكانا  بين صناع المشهد الثقافي لعراقي .

وأحسب ان الراحل برغم ما حققه من حضور وظيفي وابداعي في النتاجات الادبية والصحفية ، بقي وفيا لمنابعه الاولى .  فكلما وجد فرصة سانحة عبر فيها عن اعتزازه، وفخره بها، وقد لمست عمق ذلك في وجدانه ، إذ أتذكر انه بعد أيام من أنتهاء انتفاضة العام 1991 ، التي كانت مدينة النجف أحد أهم ساحاتها،التقيته على جسر الشهداء ونحن نعبر من شارع حيفا الى مقهى حسن عجمي، وكان هذا أول خروجي من بيتي على عكازي ، حيث عطلت شظايا الحرب ساقي اليمنى، وكان هو أيضا أول مجيء له الى بغداد من النجف ، حيث لجأ اليها قبل بدأ الحرب بايام ، مثل الكثير من العوائل التي نزحت من بغداد الى المحافظات ، كنت أمشي ببطء وهو أيضا يجاريني ببطء حديثه عن ما جرى له ولعائلته في النجف، والتفاصيل المؤلمة عند اقتحامها من قبل الحرس الجمهوري، وكان يغمض عينيه وكانه يستذكر تفاصيل، أو يريد ان يصرّ جفنيه على تلك المرأة النجفية التي شاهدها عند مناطق معامل الطابوق خارج النجف ، وهي تحمل العتاد وتركض به خلف المنتفضين تشد وسطها بعباءتها ، ولم تفتر همتها حتى بعد اصابة أحد اولادها ( كانت تهزج وتحشد الشباب لمنع تقدم قوات الحكومة )، وكأنه يعبر عن فخره بهذه المنطقة التي بدأ فيها حياته عاملا في معامل الطابوق، والمصادفة وحدها جمعتني وإياه بعد الاحتلال الامريكي في العام 2003 عندما عبرنا جسر الباب المعظم معا ، أنا في أول خروجي من البيت ، وهو كذلك بعد انتهاء المعارك ولكن دخان الحرائق ما زال يملأ سماء المدينة ، سرنا من جهة وزارة الدفاع باتجاه مقهى حسن عجمي ، وعندما وصلنا ساحة الميدان شاهدنا دخان الحرائق يصعد عاليا من احدى البنايات المجاورة لمبنى الدفاع على ضفة دجلة، وثمة جموع من البشر متجهة وخارجة من الزقاق الفاصل بين مبنى الدفاع وجامع الاحمدية ، فانعطفنا في الزقاق ، وفوجئنا بان المبنى الذي اشتعلت فيه النيران ، هو مبنى (بيت الحكمة) ، وهناك أكوام من الكتب المهمة من اصدارات بيت الحكمة يعبث بها ( الحواسم ) حرقا وسرقة.

وجدنا قبلنا القاص والناقد عادل كامل ، يحاول ان يعمل شيئاً لإطفاء الحرائق لكن بلا جدوى ، زاد المنا ونحن نرى نسخ ( المعجم المسماري ) تحترق او يعبث السراق .

اصدارات مهمة

 وهو من الاصدارات الحديثة والمهمة لبيت الحكمة، عزلنا نسخ وحملناه معنا ، وانتبهنا الى انفسنا نسير معاً مع السراق والناظر الينا لا يجد فرقا بيننا وبينهم، بنبرته الهادئة قال رزاق  ( ياجماعة ترى كلش زحمة ، من يرانا ونحن نحمل الكتب سيعتبرنا سراقا مثل هؤلاء ولن تنفع تبريراتنا ) .

  وجدنا في كلامه شيئا من الصحة وقلت له ( انت على حق ..هذه البلاد لا يمكن التمييز بين حاميها وحراميها)، وذكرته بما رواه لي قبل 12 سنة من ذلك التاريخ في مدينة النجف...ذهبنا الى المقهى وفي ايدينا وملابسنا شيئا من رماد الحرائق، انه رماد حرائق البلاد التي لاتنطفيء .!


مشاهدات 271
الكاتب عبد الستار البيضاني
أضيف 2024/06/01 - 12:26 AM
آخر تحديث 2024/06/30 - 2:17 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 278 الشهر 11402 الكلي 9361939
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير