أذن وعين
الأمريكيتان التوأم هوفمان في مضارب شمر
عبد اللطيف السعدون
تروي الأميركيتان التوأم روث وهيلين هوفمان اللتان أقامتا في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي حكايات مثيرة عن زيارتهما الى مضارب عشيرة شمر في الشمال، وذلك قي مذكراتهما «ليالينا العربية»، وهذا بعض منها:
«ما انتظرناه طويلا أصبح حقيقة، وها نحن في الطريق الى مضارب عشيرة شمر بصحبة سائقنا مردوخ في سيارته البونتياك، وقبل قليل مررنا عبر حقول يابسة لكنها بدت لنا منعشة لأن مزاجنا كان رائقا، ووجهتنا الآن هي مدينة الشرقاط التي يستغرق الطريق اليها من بغداد بين ست وسيع ساعات، وفيها قصر الشيخ الذي عرض علينا الاقامة فيه عندما علم برغبتنا في زيارة المنطقة.
مشت السيارة في مناطق مقفرة قبل أن نصل الى مدينة سامراء التي تفع على امتداد النهر، وكان في مقدورنا رؤية مناراتها الذهبية من مسافة بعيدة، بعد ذلك بدأت تضاريس الأرض تتغير، وقد أخذت التلال تظهر تدريجيا قبل ان نتوقف لتناول ما أحضرناه معنا من طعام ملفوف بورق جرائد قديمة، ساندويتشات من شرائح اللحم، وبيض مسلوق وخيار مع الملح، وطيلة ثلاث ساعات بعد الأكل لم نتوقف عن متابعة السير الى أن وصلنا الى مدينة بيجي حيث شاهدنا (جايخانة) دلفنا داخلها لشرب الشاي الذي كان حارا ولذيذا لدرجة أن كلا منا شربت أربعة استكانات ثم غادرنا المدينة نحو قصر الشيخ الذي أصبح بعد ساعتين على مرمى حجر منا.
عبرنا البوابة الخارجية للقصر، وسرنا بالسيارة عبر مزرعة الشيخ الخضراء، عندها ظهر رجل عجوز أسود يلبس دشداشة بيضاء طويلة ويضع عمامة على رأسه ليقول لنا بصوت واهن ومبحوح: «السلام عليكم»، أجبناه: «وعليكم السلام»، وسرعان ما نادى على الحارس الذي جاء ممتشقا بندقيته، وحاملا مجموعة مفاتيح حديدية ضخمة ليقودنا الى الصالة الرئيسية التي حوت قطع أثاث مبعثرة، وقدم لنا الماء، ثم قررنا استئناف سفرنا الى الموصل قبل أن يحل الظلام.
في الموصل بتنا ليلتنا في البيت المخصص لنا، وفي اليوم التالي التقينا بالشيخ (فلان) الذي أبلغنا انه لا يمكنه البقاء معنا لاعتلال في صحته، وان وكيله سيد كريم سوف يمر علينا ليرافقنا الى مضارب العشيرة.
أمضينا ساعات الظهيرة في السباحة في دجلة بصحبة عدد من الانجليز المقيمين في الموصل، ومن بينهم القنصل البريطاني الجديد الذي حل محل القنصل الذي قتل قبل عدة شهور إثر وفاة الملك غازي، وفي المساء تناولنا طعام العشاء مع السائق مردوخ الذي كان التقى سيد كريم، ونقل لنا عنه أن خيمة جميلة بيضاء قد أعدت لنا، وأنه تم ترتيب ارسال قوالب ثلج الى المخيم، بين يوم وآخر، من الموصل لكي نشعر أننا في بيتنا فعلا.
في اليوم التالي وصل سيد كريم ليبلغنا أن السيارة جاهزة للسفر، ورافقنا بدويان استقلا المقعد الأمامي من السيارة، وركب أيضا مرافقنا الأسود محمد الذي كان يتناوب مع سيد كريم السائق الضرب على أنبوب النفخ المطاطي الذي يصدر صوتا مدويا يفزع كل من يسير على مقربة من السيارة فيما كان رأس البندقية التي يحملها محمد يمتد الى خارج السيارة في زاوية خطرة جعلتنا في حالة فزع من أن تكون محشوة بالعتاد.
توقفنا عند أحد باعة الخضار وسط المدينة، وترجل محمد ليشتري دزينة من الخيار الأخضر الزاهي ليحضره لنا، وقد استل سكينا من حزامه، وبدأ يقشر كل واحدة بعناية، ثم يقسمها طوليا الى نصفين، ويضعهما في راس السكين المدبب، ويقدمها الينا، ثم يعطي مثلها لسيد كريم، ويحتفظ بواحدة له.
لم يكن في الطريق ما يغري بالنظر، كان كثير التعرجات، مليئا بالتلال الواطئة، ولم يكن ثمة من يشير الى وجود حياة الى أن وصلنا الى قرية (رفعة) التي يجري وسطها ينبوع ماء عميق يعطي لمسة جمالية الى حياة أبنائها.
توقفنا عند مقهى صغير، وطلب محمد أربعـــــــــــة استكانات شاي، وبدا أن الجميع هنا يعرفون مرافقينا، وتم ابلاغ اسمينا الى رجال الشرطة الذين جاءوا يسألوننا عما نفعله هنا.
عدنا ثانية لنسير أميالا طويلة وسط جو مغبر وجاف قبل أن نصل قرية (دوارة) التي تمتد في سهولها مضارب عشيرة شمر.»
..والـــــــــــــى الأسبوع القادم.