أذن وعين

الأرملة الصغيرة بعد رحيل زوجها الملك 

عبد اللطيف السعدون

يتابع الثنائي التوأم روث وهيلين هوفمان مشاهداتهما في بغداد إثر وفاة الملك غازي:

    «في اليوم التالي لتشييع جنازة الملك عادت بغداد الى وضعها الطبيعي بعد أن كانت المأساة قد أصابت كل مرافقها بالشلل اذ أقفلت الأسواق أبوابها، واكتفى الناس بما متوفر في بيوتهم، وقد عين الأمير عبد الاله وصيا على الملك الصغير فيصل الذي لم يتجاوز عمره السنوات الأربع، وبدأت فترة الحداد الأربعينية، عندها خطر في بالنا ان الوقت يبدو مناسبا لذهابنا الى مضارب شمر، الا أن الوضع المضطرب في منطقة العشائر منعنا من ذلك حيث يتوقع الناس المزيد من القلاقل بعد مقتل القنصل البريطاني في الموصل، وعدم استقرار الحال.

    في حينه فوجئنا بمكالمة تلفونية تخبرنا بوقوع حوادث شغب، ومقتل نوري السعيد، وقد خرج الناس الى الشوارع بحثا عن الحقيقة، واكتظت المقاهي الكبيرة المقامة في الهواء الطلق، وبدا أن الوضع ينذر بمشاكل جدية لذلك تم تدارك الأمر بسرعة اذ أعلن راديو بغداد في المساء عن بيان مهم دفع مديري المقاهي لرفع صوت المذياع ليمكن سماعه من مسافة بعيدة، كان نوري باشا نفسه يخاطب الشعب ليبلغه أنه بخير، وبصحة جيدة، وأن ليس ثمة ما يدعو الى القلق، وان الأمر لا يعدو مجرد شائعات، وتخيلناه وهو يبتسم بلا مبالاة ظاهرة من خلال حركة شاربيه، وقد جعلته ثقته بنفسه رجل الساعة.

    بعد وقت قصير تفرقت التجمعات، وعادت حركة الناس الى طبيعتها، كذلك عادت السيارات والجمال و(العرباين) الى الشوارع، وتنفس الناس الصعداء، وقد يكون نوري السعيد، هو الآخر، عاد الى منزله ليحتسي الشاي.

    بعد يومين كنا في منزل جارنا الضابط البريطاني كاريسلي، وكانت زوجته قد وصلت لتوها من لندن، ووجدنا هناك سوسو وزوجها كاظم الكيلاني، واستمتعنا، ونحن في الشرفة، بحكايات عن آخر ملوك الحجاز فيما كان الكيلاني في الزاوية القصية يتحدث مع ضباط من البعثة العسكرية البريطانية بصوت منخفض، في هذه الأثناء اقترب منا مضيفنا ليخبرنا أن نوري باشا سيحضر لكنه قد يتأخر بسبب ذهابه لإلقاء خطاب آخر من الراديو، وما أن حل الظلام حتى قدم الباشا بشاربيه الخفيفين، وعندما وقفنا لمصافحته شعرنا بالخجل، وقد أنقذ مضيفنا الموقف بترحيبه به قائلا: انه لأمر مسر فعلا أن نرى فخامتكم مرة ثانية، وان يكون خبر وفاتكم كاذبا.

    في اليوم التالي ذهبنا الى قصر الزهور لأداء واجب العزاء، وقد واجهتنا زحمة النساء النائحات المحتشدات قرب القصر، ولم نتمكن من التقدم بالسيارة انجا واحدا، وتم استدعاء رجال الشرطة لتفريق الجموع المحتشدة مستخدمين العصي، وكان لا بد لنا من الاستدارة والعودة الى المنزل.

    مضت عدة شهور قبل ان نرى الملكة في القصر للمرة الأولى بعد وفاة الملك، وقد أجلسنا في صالة مخصصة للرجال ربما تكون قد أعدت في الأصل لمقابلات الملك الراحل، وقد وصل الى الصالة الملك الصغير وهو يقود سيارته الصغيرة الصفراء «الكريسلر»، ثم ما لبث ان أطلق منبه السيارة، وسحب الكابح ليقف أمامنا، ظلت الملكة الأم جالسة بينما وقف الأمير عبدالاله، ووقفنا نحن الاثنتان، ثم تقدمنا من الملك الصغير ومدنا أيدينا لمصافحته فيما كان ينظر نحونا بعينيه السوداوين الواسعتين وهو يبتسم.

    بدت الملكة الأرملة الصغيرة التي يبلغ عمرها قرابة الرابعة والعشرين مختلفة تماما عما رأيناها عليه من قبل، في حينها كانت هي المضيفة في حفل استقبال أقيم في القصر، وقد ظهرت مزهوة بثوبها القطيفة البنفسجي، وشعرها الأسود المصفوف اللامع، ووجهها المزين بعناية، وشفاهها الحمراء الجميلة، وعينيها الداكنتين السوداوين، أما اليوم فقد كان من الصعب التعرف عليها اذ بدت نحيلة، وكان وجهها شاحبا لكنا احتفظت بجمالها رغم أنها اتشحت بالسواد تماما، وغطت شعرها بوشاح اسود ثخين لم يترك شعرة واحدة ظاهرة من حول جبينها البارز، وقد أبقت يديها متشابكتين في حجرها ربما لتظهر عدم ارتدائها لأي خاتم، ولم تكن هناك أية مكملات للزينة التي قد تستعملها المرأة عادة باستثناء مفتاحين مربوطين في مؤخرة وشاحها مثلما تفعل أية فتاة بدوية تعيش في بيوت الشعر، ولا ندري لماذا حملت الملكة مفاتيحها معها، والبدويات كن يحملن في نهاية (ايشارباتهن) مفاتيح الصناديق التي تحوي ممتلكاتهن الشخصية خوفا من السرقة! 

    وهكذا، وبعد انتهاء مراسيم الحداد، جنحت بغداد نحو الهدوء، وعاد الناس لممارسة أعمالهم الاعتيادية، وبقي أمامنا أن نفكر في كيفية تحقيق زيارتنا الموعودة الى مضارب شمر».