الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الثالث المرفوع والمجتمع المقموع (1)

بواسطة azzaman

الثالث المرفوع والمجتمع المقموع (1)

منقذ داغر

 

من المفارقات التي تسترعي الأنتباه،أن المجتمعات الأنسانية باتت تنكص الى عهود ما قبل الثورة الفرنسية في الوقت الذي تنعم فيه بثمار ما بعد الثورة الرقمية. ويبدو أن ثمار الثورة الرقمية وما أتاحته لروادها مكّن قلة من الناس أن يتحولوا الى ديناصورات بشرية مفترسة سواء على الصعيد الأقتصادي أو الأجتماعي أو السياسي بل وحتى الديني. وأذا كان هناك من مصطلح يمكن تعميمه على مجتمعاتنا المعاصرة في كل العالم فهو مصطلح المجتمعات الثنائية Two Tiered societies  الذي جاء به عالما الأقتصاد عاصم أوغلو وجونسون في كتابهما الأخير «السلطة والتقدم» Power and Progress. أن من يتفحص مجتمعاتنا في العقدين الأخيرين فقط يلاحظ:

1. أن عدد المليارديرات في العالم  تضاعف من حوالي 500 شخص عام 2000 الى ما يناهز 2500 شخص في العام الفائت.هؤلاء ألتهموا أكثر من نصف الثروة التي تم توليدها في كل العالم خلال العقد الماضي! وأن 1بالمئة من سكان العالم سيطروا على ثلثي ال 42 تريليون دولار التي تم أنتاجها منذ 2020،في حين حصل 99 بالمئة  من البشر على ثلث تلك الثروة فقط. وفي العراق فأن آخر التقديرات تشير الى أكثر من ثلاثين ملياردير لم يكن أحد منهم موجود قبل عقدين من الزمن.يقابل ذلك شبه أختفاء للطبقة الوسطى التي تم سحقها ليتحول المجتمع الى طبقتين أقتصاديتين فقط(أغنياء وفقراء).

2. سياسياً،تحولت المجتمعات الى طبقتين فقط هما قلة من القابضين على السلطة وكثرة من المحرومين منها. فقد أختفت طبقة أولئك المؤثرين سياسياً ممن هم خارج السلطة، كالمعارضين البارزين،والأحزاب والمنظمات المهنية والنقابات العمالية رغم وجودها فعلاً على الساحة. وكما يشير لذلك أكثر من مؤشر عالمي لقياس الديموقراطية فأن عدد البلدان الأوتوقراطية والديكتاتورية في تزايد مستمر يقابله أنخفاض ملحوظ في نسبة من يعيشون في ظل ديموقراطيات حقيقية. وفي العراق، فأن كل المؤشرات تدل على تراجع كبير في كل معايير الديموقراطية التي بدأت تزدهر بعد 2003 حتى أن حرية التعبير باتت مبددة وحياة المعارضين صارت مهددة.

3. أما في الأجتماع،فقد تحولت مجتمعاتنا الى دارين لا ثالث لهما: طائفتي،مجموعتي،قوميتي،مدينتي...الخ مقابل الآخر المختلف عني.لقد أنتشرت الشعبوية وكراهية الآخر في كل أنحاء العالم وصار هناك أستقطاب ثنائي شديد يقابله أنخفاض واضح في منسوب أحترام الآخر وقبوله كشريك،وليس تابع. وفي العراق فأن ظواهر الطائفية والعشائرية والمناطقية والعرقية باتت هي المهيمنة على المشهد الأجتماعي. وصار مبدأ أما صديق أو عدو هو المتحكم في فضاء التواصل الأجتماعي والحوار الأجتماعي.

اديان سماوية

4. دينياً، فأن العالم بات يشهد مزيد من الأستقطاب الديني ليس في الأديان السماوية أو التقليدية فقط، بل في ظاهرة التعصب الآيدلوجي الدوغمائي أيضاً. فتحولت العلمانية والليبرالية وشبيهاتها من المفاهيم الى أديان متصلبة تكفّر من لا يؤمن بها تماماً مثلما تفعل الأديان التقليدية. وصارت المجتمعات منقسمة الى دار الأيمان(مهما كان شكل الأيمان ومعتقده) ودار الكفر. فكل من لا يؤمن بديني أو معتقدي بات كافراً يجب صلبه أو نفيه أو تتفيهه،وكل من يوافقني الرأي أو يصفق له فهو الصادق والموثوق والمؤتمن. وفي العراق يمكننا ملاحظة حجم الأستقطاب الحاصل بين دارَي الكفر والأيمان. لقد تحول التكفير من فكرة مرفوضة الى ممارسة مقبولة.

لقد عانى الفكر الأنساني من المنطق الأرسطي القائم على قانون الوسط،أو الثالث المرفوع  The law of excluded middle(or third).

فمبوجب هذا القانون(الثنائي) فأن الشيء أما يكون جميل أو قبيح،أبيض أو أسود،غني أو فقير،مؤمن أو كافر...الخ. أن منطقة «الأعراف» لا وجود لها بموجب هذا القانون،فأما جنة أو نار! أن مظاهر هذا القانون السائد-للأسف-ليس في مجتمعنا فقط بل في كثير من المجتمعات الأخرى لها أنعكاسات خطيرة على حياتنا سأوضحها في مقالات لاحقة.لقد كرست السنوات الأخيرة من أبحاثي للنبش في أسباب هذه الظاهرة الخطيرة في العراق التي أغتات الآخر(الأجتماعي والديني والسياسي والأقتصادي) وصادرت حقه في الوجود،وجعلت التصلب لا المرونة هو أساس الحياة والتفاعل الأجتماعي. وعلى الرغم من تناول تلك الأسباب وأنعكاساتها على العراق في كتاب(التصلب الثقافي،منظور جديد لفهم المجتمع العراقي) وبرنامج (الأخ الأكبر) الا أن من المفيد التطرق بأختصار في مقالات قادمة الى أبعاد رفع الثالث وقمع الآخر.


مشاهدات 405
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/02/24 - 4:02 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 2:28 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 322 الشهر 11446 الكلي 9361983
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير