الدولة الكردية حلم ضيعته الأحقاد الداخلية والأطماع الخارجية
باسل الخطيب
لماذا لم يستطيع الكرد إقامة دولتهم؟ وما هي الأسباب التي أدت لتقسيم «كردستان» بين عدة دول؟ وكيف أدت الإنقسامات والتناحر والأحقاد بين القوى الكردية إلى تشرذم الشعب الكردي وكانت نتائجها كارثية على «حلم الدولة»؟ ولماذا لم تف الدول الكبرى بوعودها بشأن استقلال كردستان وإقامة دولة كردية؟ وما هي كواليس مباحثات تلك الدول، بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ثم الاتفاقيات التي تقاسمت بها تركة الدولة العثمانية وثروات المنطقة؟
جاءت الإجابة على تلك الأسئلة وغيرها، في كتاب الباحث (صلاح جمور) الموسوم (أصول القضية الكوردية)، الذي يستند على أطروحته، التي حصل بموجبها على شهادة الدكتوراه من معهد الدراسات الدولية العليا في جامعة جنيف، وصدرت نسختها لأصلية باللغة الفرنسية، وأصدرت نسختها العربية مؤسسة جين (الحياة) في السليمانية، بترجمة د.سعاد محمد خضر.
وكرس الباحث كتابه، لبحث أسباب فشل الكرد في إقامة دولتهم المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى (194- 1918)، برغم اعتراف الحلفاء بذلك في مؤتمر باريس للسلام (1919)، كحال العراق وسوريا وأرمينيا وغيرها.. كما سلط الأضواء على مواقف بريطانيا وفرنسا وتركيا وألمانيا والولايات المتحدة وسوريا، فضلاً عن مواقف القوى الكردية نفسها، تجاه إقامة دولة كردستان.
وتوزعت مفردات الكتاب، الذي جاء في 320 صفحة، من القطع الكبير، على مقدمة وسبعة مباحث (فصول) وخاتمة، فضلاَ عن قائمة مفصلة بالمصادر والمراجع، التي اعتمدها، بما في ذلك النسخ الأصلية للوثائق الرسمية البريطانية والفرنسية والأمريكية والتركية والعراقية فضلاً عن الكردية، المتعلقة بتاريخ كردستان وقضية الموصل، والاتفاقيات الدولية ذات الشأن، المحفوظة في أرشيف الأمم المتحدة وقصرالأمم في جنيف، فضلاً عن مكتبة جامعة جنيف.
• إرهاصات الدولة الكردية
وتطرق الباحث، إلى تاريخ الإمارات الكردية، وكيف توصل الكرد إلى تأسيس عدة إمارات ذاتية الحكم في نهاية القرن السابع عشر، هي: أردلان، بادينان، بابان،سوران، زهاو وبوتان، حيث أرسيت في اثنتين منها أسس بنية الدولة الكردية، ما سمح لهما بإدارة الجزء الأكبر من أراضي كردستان، ومقاومة الغزو التركي والفارسي لعدة سنوات.
وأورد المؤلف، أن بدايات القرن التاسع عشر، شهد وجود إمارة سوران، عاصمتها راوندوز، في ظل حكم الأمير محمد منصور، كدولة منظمة نوعاً ما، أعلنت استقلالها عام 1826، وكانت لديها علاقات دبلوماسية مع إيران ومصر، وامتلكت جيشاً قوياً من ثلاثين ألف جندي نظامي، فضلاً عن مسلحي القبائل المجاورة، وكان لديها مصنعاً لإنتاج المدافع والبنادق.. لكن العثمانيون تآمروا على الأمير محمد منصور واغتالوه غيلة، واضعين بذلك حداً لاستقلال دولة كردية دام ثلاثين عاماً.
وعلى التوازي مع ذلك، كانت إمارة بوتان، إلى الشمال من شقيقتها إمارة سوران، تتمتع هي الأخرى بحكم ذاتي نسبي تجاه الدولة العثمانية، وحاولت في ظل حكم الأمير بدرخان، عام 1821، أن تتمدد خارج حدودها بغية تشكيل دولة كردستان المستقلة، حيث اعتقد أميرها أن سبب فشل الانتفاضات الكردية ناجم عن سببين مترابطين، هما غياب وحدة القوى الكردية، وافتقار الكرد إلى صناعة السلاح والذخيرة.
ولم تقف الدولة العثمانية مكتوفة الأيدي تجاه إمارة بوتان، إذ عمدت إلى استغلال اضطرابات داخلية فيها، وشنت ضدها سلسلة حروب، بذريعة حماية المسيحيين، بتشجيع ودعم من فرنسا وروسيا وبريطانيا، فضلاً عن مساعدة بعض الوجهاء المحليين، وانتهى ذلك بأسر الأمير بدرخان ونفيه إلى جزيرة كريت، وهكذا وضع الحد لاستقلال إمارة بوتان الذي استمر على مدى ثلاثين عاماً، لتكون آخر إمارة كردية حققت الاستقلال النسبي في تاريخ كردستان.
تداعيات الحرب العالمية الأولى
وتناول المؤلف، كيفية احتلال كردستان من قبل الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، ومعاهدات أرضروم (الأولى عام 1823 والثانية 1847)، وبروتوكولات القسطنطينية وطهران بشأن ترسيم حدود كردستان، وبدء اهتمام الدول الكبرى بكردستان، وتأثير الحرب العالمية الأولى على المنطقة، ودراسة أهداف روسيا من وراء احتلال كردستان، والأهداف البريطانية في بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا)، والاتفاقيات السرية ذات الصلة بالمنطقة، التي أبرمتها الدول الكبرى، وصولاً إلى اتفاقية سايكس بيكو (1916)، وتداعياتها على آسيا الصغرى بعامة، وكردستان بخاصة، وكيف دخلت منطقة كردستان في ثغرات قضية الموصل.
وأوضح أن الكرد كانوا عشية الحرب العالمية الأولى، يطمحون للاستقلال والتحرر وإقامة دولتهم الوطنية، كحال باقي الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية، لكن الحركة الكردية الوطنية لم تكن فاعلة بما فيه الكفاية على الصعيد الدولي لتأييد ذلك.. لافتاً إلى أن المكانة الدولية لمنطقة كردستان إنما تعود إلى الأهمية الاستراتيجية لنفطها بالنسبة للحلفاء خلال تلك المرحلة (1914-1925)، فضلاً عن الحاجة لتأمين الخط الاستراتيجي (مشروع خط برلين- بغداد)، برغم الدور المهم الذي لعبه الجنرال الكردي شريف باشا، ومبادراته الشخصية التي كان لها أثرها في إثارة نوع من الاهتمام الدبلوماسي بالقضية الكردية.
وتناول جمور، في الفصل الرابع من كتابه، التطور التاريخي لقضية كردستان، منذ نهاية مؤتمر باريس للسلام، وصولاً إلى مؤتمر سان ريمو (نيسان/ أبريل 1920)، وموقف بريطانيا وفرنسا وتركيا من إقامة دولة كردية، وتفاهمات لندن وباريس بشأن التحضير لنظام مستقبلي في كردستان، ومن ثم تحليل نص النسخة النهائية التي تمخض عنها مؤتمر سان ريمو، بشأن وضع كردستان الغربية والجنوبية، وكيفية تقاسم نفط كردستان الجنوبية وبلاد ما بين النهرين بين بريطانيا وفرنسا.
وكرس الفصل الخامس من الكتاب، لمعاهدة سيفر للسلام (آب/ أغسطس 1920)، التي تتألف من (433) مادة، تم تخصيص المواد (62،63،64) من قسمها الثالث لقضية كردستان، حيث حددت المادة (62) أراضي الدولة الكردية المستقبلية، كما تضمنت تلك المادة تهيئة الاستعدادات اللازمة لتطبيق المعاهدة خلال ستة أشهر، الحكم الذاتي المحلي للمنطقة الكردية الواقعة شرق نهر الفرات، إلى الجنوب من حدود أرمينيا وإلى الشمال من حدود سوريا وبلاد ما بين النهرين.
وبذلك، ودائما بحسب المؤلف، لم تعترف معاهدة سيفر سوى بـ(20بالمئة) فقط من مجمل الأراضي التي يسكنها الكرد، وبنحو(25بالمئة) من تلك التي طالب بها شريف باشا (رئيس الوفد الكردي خلال المباحثات)، وبموجب ذلك تضم كردستان ولايات ديار بكر، العزيز، منطقة هكاري، وولايات كردستان الشمالية وهي ارضروم ووان وبتليس المنزوعة التي نصت المادة (89) من المعاهدة، ضمها إلى أرمينيا، كما اقتطعت المنطقة الشمالية من هكاري والحقت بأرمينيا أيضاً، وألحقت مناطق عينتاب ورحا أورفة وماردين بسوريا تحت الانتداب الفرنسي، فيما أبقيت مناطق مرعش وآديامان وملاطية وأوزنجان في تركيا.
وفيما يخص كردستان الجنوبية، نصت المادة (64) من معاهدة سيفر، على عدم معارضة الحلفاء الالتحاق الإداري للكرد في ولاية الموصل بالدولة الكردية المستقلة، فيما لم تتطرق المعاهدة لمنطقة كردستان الشرقية باعتبارها جزءاً من الامبراطورية الفارسية، مع ترك الباب مفتوحاً لإمكانية تعديل حدودي محتمل لصالح كردستان، بموجب المادة (62) من المعاهدة.
وعلى الرغم من عدم تطبيق معاهدة سيفر، إلى أن الاعتراف الدولي بالحكم الذاتي لجزء من كردستان ومن ثم استقلاله، بات من الحقائق المهمة في التاريخ المعاصر للشعب الكردي.
ويعني التأييد الدولي لإقامة دولة كردية في غرب كردستان، وفقاً للمؤلف، إن بريطانيا، كما فرنسا، لم تعترفان بالحركة الوطنية الكردية، ولا حتى بحق الشعب الكردي في تقرير المصير، إنما إلى رعاية مصالحهما في المنطقة، وجعل كردستان حجر عثرة بين تركيا وروسيا من جهة، وبلاد ما بين النهرين من جهة أخرى، فضلاً عن سعيهما لتقاسم نفط كردستان.
الموصل وتقاسم كعكة كردستان
أتاحت المادة (64) من معاهدة سيفر، لسكان المناطق المشمولة بالمادة (62)، منها الموصل، التوجه لعصبة الأمم بطلب الاستقلال عن تركيا، وذلك بعد عام من بدء تطبيق المعاهدة.. وبرغم ما لذلك من ايجابيات بالنسبة للكرد، إلا أن الحلفاء، وعلى عادتهم، تعمدوا إضفاء نوع من الغموض في نص تلك المادة، بحسب المؤلف.
وبرغم موافقة مؤتمر (سان ريمو) على ضم الموصل لبلاد ما بين النهرين، إلا أن مصير الولاية لم يتقرر بشكل نهائي بين بريطانيا وفرنسا، إلا بعد مباحثات ماراثونية أسفرت عن انعقاد مؤتمر ثان، في سان ريمو أيضاً (في 22 كانون أول/ ديسمبر1920)، حيث أثيرت فيه قضايا انتداب بريطانيا ووصايتها على بلاد ما بين النهرين وفلسطين، مقابل انتداب فرنسا ووصايتها على سوريا ولبنان.
وشكل إلحاق الموصل بالعراق، قضية جوهرية في السياسة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أوضح ذلك جلياً رئيس الحكومة البريطانية، (لويد جورج) حينها، بقوله إن «حرمان العراق من ولاية الموصل بحبوبها ونفطها، يؤدي بهجدياً إلى الشلل المالي والاقتصادي».. علما أن الولاية كانت في ظل الحكم العثماني تضم إدارياً معظم، أو كل، أراضي كردستان الجنوبية تقريباً، بما يشمل مناطق دهوك، راوندوز، أربيل والسليمانية مع الموصل كعاصمة.
وأسهمت قضية الموصل في تعزيز الأهمية الدولية لكردستان، حيث نشأت تلك القضية أساساً نتيجة سلسلة ردود أفعال في مواقف بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والعرب في مؤتمر السلام في باريس، ما أدى إلى إعادة اتفاقية سايكس بيكو إلى مائدة المفاوضات بين الحلفاء، إذ كانت موافقة فرنسا على التخلي عن الموصل مشروطة بموافقة بريطانيا على توسيع النفوذ الفرنسي في سوريا، بحسب المؤلف.
وباتت الموصل، قضية تتعلق بهيبة بريطانيا وكرامتها، لاعتقاد وزيرخارجيتها، الماركيز كورزون دو كندلستون، بأنه إذا لم تفرض لندن إرادتها على تركيا في قضية الموصل، فسوف تتأثرهيبتها لا في العراق حسب، بل وفي الشرق الأوسط ككل.
وهكذا رفض، في لوزان، حق الكرد في إجراء استفتاء لتقرير مصيرهم، في الوقت الذي كانت الطائرات الحربية البريطانية تدك الكرد لأنهم انتخبوا ملكهم، الشيخ محمود، ورفضوا الالتحاق بدولة عربية حديثة أوجدتها بريطانيا.. ودائماً بحسب المؤلف.
لوزان تنسف تعهدات سيفر
وركز جبور، في الفصل السادس من كتابه، على تفاصيل مراجعة معاهدة سيفر، واستبدالها بمعاهدة لوزان للسلام بين كل من بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا وصربيا من جانب، وتركيا الكمالية من جانب آخر، في (تموز/ يوليو 1923)، حيث تم فيها استبعاد الفصل الثالث من معاهدة سيفر، الخاص بالحكم الذاتي لكردستان الغربية،
وكانت معاهدة سيفر نتيجة صراع بريطاني طويل الأمد للسيطرة على آسيا الصغرى، بعد تفكيك الامبراطورية العثمانية والحصول على مصالحها في بلاد ما بين النهرين، بما في ذلك كردستان الجنوبية وفلسطين ومصر وقبرص، والسيطرة على مضيق الدردنيل، لكن انسحاب الولايات المتحدة من تسوية السلام مع تركيا، والتنافس العدائي بين الدول الكبرى في آسيا الصغرى، لاسيما بين باريس ولندن، وانتفاضة القوميات التي كانت تحت حكم العثمانيين، وهزيمة الجيش اليوناني أمام الكماليين، عوامل جعلت من المستحيل تطبيق معاهدة سيفر.
وهكذا تم استبعاد مواد معاهدة سيفر الخاصة بكردستان، وتركت بريطانيا مصيركردستان الغربية بيد تركيا الكمالية، من دون تقديم الأخيرة أي ضمانات، كما لم تمنح معاهدة لوزان أية حماية دولية للشعب الكردي الذي ظل تابعاً لسيطرة تركيا، ونتيجة لذلك جاءت استماتت بريطانيا بالتمسك بكردستان الجنوبية، كخطوة لا بد منها للحفاظ على وصايتها على العراق، لتمويل قواتها من عوائد نفط كردستان وقمحها، وتمويل البنى التحتية لدولة العراق الوليدة، فضلاً عن كون كردستان الجنوبية، لاسيما جبالها شمال الموصل والعمادية وراوندوز، خط الدفاع الإستراتيجي الأول عن الوجود البريطاني في العراق ضد أي اجتياح تركي أو روسي محتمل.
وتسبب فشل معاهدة سيفر، وفقاً للمؤلف، في انفراط تحالف المصالح بين بريطانيا وفرنسا وايطاليا، وامتد تأثير ذلك إلى باقي أوربا وآسيا الوسطى، مثلما أوحت للألمان بفكرة إلغاء معاهدة فرساي (المعاهدةُ التي أسدلتِ الستارَ على أحداث ِالحرب العالمية الأولى 1918)، كما غيرت معاهدة لوزان مفهوم شعوب الشرق، لاسيما الكرد والأرمن، للغرب الذي تحول بنظرهم من قوة ديمقراطية تحررية، إلى قوة استعمارية امبريالية، حيث المصالح متقدمة على حقوق الشعوب، كما شكلت دليلاً على فشل (المثالية الإنسانية) التي نادى بها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (تضم 14 مبدئاً حددها الرئيس في خطابه أمام الكونغرس في 8 كانون الثاني/ يناير 1918، لاعتمادها في مفاوضات السلام لإنهاء الحرب العالمية الأولى)، وبرهاناً على انتصاراً للقوة والمصالح على المبادئ.
وهكذا كانت معاهدة لوزان، عبارة عن اتفاقية ظرفية أوجدتها القوة والخوف من اندلاع حرب جديدة بين الحلفاء وتركيا، وبحثاً عن تسوية للمصالح بين تركيا وانكلترا على وجه الخصوص، كما خلص المؤلف.
بعد فوات الأوان
لقد بلورت اتفاقية سايكس- بيكو مصالح روسيا وإنكلترا وفرنسا الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وتم تقسيم كردستان إلى أربع مناطق، أحدها ألحقت بروسيا، الثانية تديرها مباشرة فرنسا، والثالثة التي ألحقت بالدول العربية، تم تقسيمها إلى منطقتي نفوذ فرنسية وبريطانية.
وبتقسيم كردستان إلى مناطق نفوذ بين عدة دول، استبعدت اتفاقية سايكس- بيكو، الإبقاء على الكرد تحت سلطة ومصالح دولة وصاية واحدة، ما شكل بالنتيجة أحد الأسباب الرئيسة وراء عدم إنشاء دولة كردستان.
وفيما يخص الكرد أنفسهم، برأي المولف، فقد كان ينقص قادتهم اتباع سياسة استراتيجية لخلق دولة قومية، وكانوا ينتظرون اعتراف الحلفاء بحق الاستقلال لكردستان دون أن يعرفوا أن ذلك الحق يجب فرضه بالقوة، كما كانوا يقيمون بالقسطنطينية بعيداً عن الشعب، وكان رهانهم الأكبر على عهود الحلفاء والسلطان أكثر من المراهنة على قدرة الشعب الكردي.
وأدركت الحركة الكردية ذلك الخطأ، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن احتلت الحركة القومية التركية لمصطفى كمال، كردستان واستخدمت الكرد وكردستان قاعدة تنطلق منها ثورتها.
• عصبة الأمم أدة بريطانية
وكرس صلاح جبور، الفصل السابع من كتابه، لدور عصبة الأمم في قضية كردستان والموصل، ورأي محكمة العدل الدولية الاستشاري بهذا الشأن، من بين أمورأخرى، أدت إلى تمكن بريطانيا من الحصول على مبتغاها، ونتائج قرار العصبة إلحاق ولاية الموصل بالعراق، واستعراض الالتزامات والعهود البريطانية والعراقية لمساندة إدارة ذاتية لكردستان الجنوبية، ومدى احترام تلك العهود.
وأورد المؤلف، أن النفط يشكل العنصر الحاسم في توجيه سياسة بريطانيا بالحاقها كردستان الجنوبية بالعراق، التي كانت هي وصية عليه، كما أن قضية الموصل لم تكن لتأخذ تلك الأهمية في العلاقات الدولية لو لم تكن فيها موارد نفطية كبيرة، من هنا اهتمت بريطانيا وفرنسا وأمريكا بإلحاق الموصل بالعراق، كونهم قد حصلوا مسبقاً، عبر اتفاقيات ثنائية، على بعض الامتيازات.
لقد نجحت بريطانيا في جعل الموصل قضية ترسيم حدود، لمنع أي قرار محتمل من عصبة الأمم بتنظيم استفتاء شعبي في كردستان الجنوبية، رافضة بذلك، وفقاً للمؤلف، أي عرض للقضية كتقرير مصير للشعب الكردي في كردستان الجنوبية، بحجة أن ذلك سيثير مشاكل أمنية، وأن غالبية السكان غير متعلمين، برغم أن بريطانيا ذاتها إدعت من قبل، أن هؤلاء السكان أنفسهم صوتوا في عام 1921، لصاح إلتحاق بلدهم بالعراق، ودلل على ذلك كورزون، عندما قال، بعد معاهدة لوزان، إنه في حال إجراء استفتاء فإن «أغلب السكان ولاية الموصل سيصوتون لاستقلال كردستان الجنوبية، وبالنتيجة فان المنطقة لن تعود للعراق ولا لتركيا»، وبذلك حذفت بريطانيا بوضوح، حق الكرد في التعبير عن طموحاتهم بشأن مستقبل بلادهم.
وهكذا قررت عصبة الأمم (في 11 آذار/ مارس 1926)، إلحاق وصاية الموصل بالعراق، بشرطين: أولهما يتعلق بضرورة تمديد الوصاية البريطانية على العراق لمدة 25 عاماً، والثاني اشتراط موافقة بريطانيا والعراق على منح ذاتية ثقافية وإدارية نسبية للكرد.
• اتفاقيات لوأد الحركة الكردية
وكانت بريطانيا ترى أن قضية الموصل، تتلخص بترسيم أفضل لحدود استراتيجية تضمن للعراق موارد نفطية وقمح ولاية الموصل، فضلاً عن تأمين خط دفاعي طبيعي، وسكان يقارب عددهم المليون نسمة، يمكن أن يخدموا في الجيش العراقي.. ولهذا لم تتمكن عصبة الأمم ولا محكمة العدل الدولية ولا أي طرف آخر، من وضع نظام لكردستان الجنوبية، أو باتخاذ أي قرار بشأن مصير شعبها.. وهكذا، وبفضل السيطرة البريطانية على عصبة الأمم، تم اتخاذ قرار (في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1925)، بإلحاق كردستان الجنوبية بالعراق، وأصبح ذلك حقيقة واقعة، بنحو فتح الباب للتسبب باندلاع حروب تزداد وحشية أكثر فأكثر، بدليل سلسلة الانتفاضات المتتالية للكرد ضد العراق وتركيا، بحسب المؤلف.
وهكذا أيضاً، وقعت بريطانيا والعراق وتركيا (في 5 حزيران/ يونيو 1926)، معاهدة لترسيم الحدود وحسن الجوار، حصلت أنقرة بموجبها على امتيازات اقتصادية وإستراتيجية تمثلت بما نسبته (10%) من عوائد نفط شركة النفط التركية (البريطانية) التي حصلت على امتياز استثمار نفط الموصل وبغداد.
وكانت تلك المعاهدة، وفقاً للمؤلف، اتفاقية للأمن الإقليمي بين تركيا والعراق وبريطانيا، ضد أي حركة وطنية كردية تهدف لاستقلال كردستان، إذ كان المسؤولون الأتراك يخشون من الحرية الضئيلة الممنوحة لكرد العراق، لأنها يمكن أن تشجع إخوانهم في تركيا، ويمكن أن تكون خطراً إستراتيجياً يهدد وحدة الأراضي التركية.
وبعد القرار الأممي بإلحاق ولاية الموصل بالعراق، وعقد معاهدة ترسيم الحدود وحسن الجوار بين تركيا وبريطانيا والعراق، أخذوا يعملون على تقليص الذاتية الكردية تدريجياً، وتم تقسيم كردستان الجنوبية إلى عدة وحدات إدارية، تحولت إلى مجرد محافظات في النظام الإداري العراقي الجديد، فضلاً عن تقليص حقوق الكرد السياسية والاجتماعية والثقافية، وقمع أي مظاهر قومية كردية، كنتيجة منطقية لتأسيس العلاقات الدولية، في تلك المرحلة، على معايير القوة والمصالح للدول الكبرى، ودائماً وفقاً للمؤلف.
وخلص صلاح جبور، إلى أن التراجيديا الكردية تتلخص في أن القانون الدولي لم ينصفهم، في الوقت الذي تم فيه تطبيق القانون الوطني المحلي بشدة عليهم، مؤكداً على أن القضية الكردية ظلت حتى اليوم من دون حل.
• دروس وعبر
إن كتاب (أصول القضية الكوردية)، ينطوي على دروس وعبر مهمة شكلت وما تزال، عقبة كأداء في طريق تحقيق حلم «الدولة الكردية»، لعل أبرزها وأولها، التناحر والانقسامات الحادة بين القوى الكردية (الأغوات، القبائل والإمارات)، وثانيها الركون لتعهدات ووعود القوى الكبرى، برغم كونها لا تسعى إلا وراء مصالحها، ولا تتوانى عن استغلال أي شيء والتضحية به في سبيل ذلك.. وهنا يصح القول «ما أشبه اليوم بالبارحة» والحليم بالإشارة يفهم.
• غدر أمريكي
يذكر أن المؤلف صلاح جمور، من مواليد عام 1956، وحاصل على شهادة الهندسة الكهربائية من جامعة السليمانية عام 1978، وكان مندوباً عن الكرد في الأمم المتحدة (1982- 1992)، وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية/ علاقات دولية، من جامعة جنيف، وعمل تدريسياً في عدة جامعات أوربية وأمريكية، وله عدة مؤلفات ومقالات عن القضية الكردية.. وقد قتل في بغداد بتاريخ (28 حزيران/ يونيو 2005)، برصاص مجندة أمريكية!!!
ختاماً لا يسعنا إلا تقديم الشكر لمؤسسة (جين) على هذه الإضافة المعرفية المهمة، التي تستند إلى كم كبير جداً من المصادر والوثائق الأصلية، ومحفوظات دول وجهات أكاديمية وبحثية وسياسية عالمية رصينة.
يذكر أيضاً أن
جين (الحياة) لإحياء التراث الوثائقي والصحافي الكردي، مؤسسة غير حكومية، مقرها في مدينة السليمانية، ترجع تسميتها إلى جريدة أو مجلة، كانت تصدر في عشرينيات القرن الماضي في إسطنبول، واسم جريدة أصدرت في السليمانية العام 1926.. وتعنى جين، بتوثيق التراث الوثائقي والصحفي والمخطوطات والمطبوعات الكردية والعراقية، كما تهتم بالتاريخ الإسلامي والإيراني والعثماني والفارسي، وجمع وترجمة ما كتبه الأوربيون عن الكرد وكردستان خلال القرون الماضية.. وأجيزت المؤسسة من قبل وزارتي الثقافة والداخلية في حكومة إقليم كردستان عام 2004، وباشرت عملها منذ عام 2005، وتضم وحدات متخصصة بالمخطوطات، الوثائق الورقية والصوتية والصورية، التصوير والميكروفيلم، المكتبة ووحدة صيانة الوثائق والمخطوطات.