الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإسلام والهوية الوطنية في الدولة الحضارية الحديثة.. المكوّن القيمي والمشروع السياسي

بواسطة azzaman

الإسلام والهوية الوطنية في الدولة الحضارية الحديثة.. المكوّن القيمي والمشروع السياسي

محمد عبد الجبار الشبوط

 

مقدمة

يشكّل الإسلام في العراق عنصرًا روحيًا وثقافيًا راسخًا، لا يمكن تجاوزه في أي مقاربة لهوية العراق الوطنية. غير أن النقاش حول موقع الإسلام في الدولة والهوية الوطنية بات أكثر تعقيدًا منذ طرحه كمشروع سياسي كامل، كما فعل بعض المفكرين الإسلاميين الكبار، وفي مقدمتهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر. هنا تُطرح إشكالية جوهرية: كيف يمكن دمج الإسلام في الهوية الوطنية بوصفه مكوّنًا قيميًا وحضاريًا، دون أن يتحوّل إلى أداة إقصاء أو أداة نزاع سلطوي؟

أولًا: الإسلام في البنية الحضارية العراقية

لا جدال في أن الإسلام، منذ دخوله العراق، مثّل لحظة تأسيس حضاري كبرى. فقد تحوّلت مدن العراق إلى مراكز للفكر والفقه والأدب والكلام، وشارك المسلمون العراقيون – من جميع مذاهبهم – في بناء صرح الحضارة الإسلامية. كما أن الإسلام لعب دورًا مهمًا في بلورة منظومة القيم السائدة في المجتمع، من العدل إلى الإحسان إلى صلة الرحم واحترام العلم.

لكن هذا الموقع التاريخي لا يعني أن الإسلام هو الهوية الوحيدة للعراق، فالدولة العراقية الحديثة تضم مكونات دينية وإثنية متعددة، تمتد جذورها لما قبل الإسلام، وتشكل نسيجًا متراكبًا من الهويات الفرعية.

ثانيًا: من الإسلام الحضاري إلى الإسلام السياسي

في القرن العشرين، وخصوصًا مع صعود الإسلام السياسي، بدأ التحول في وظيفة الإسلام من مرجعية قيمية إلى مشروع سلطوي سياسي. وكان من أبرز من قدّم هذا الطرح السيد محمد باقر الصدر في كتابيه “فلسفتنا” و”اقتصادنا”، ثم في أطروحته السياسية “الدولة الإسلامية”، التي اعتبر فيها الإسلام نظامًا شاملاً للحياة، يمتلك قدرة ذاتية على إدارة الدولة الحديثة.

مرجعية قيمية

ورغم عمق طرح الصدر ونبله، إلا أن تحويل الإسلام إلى مشروع حكم – لا مجرد مرجعية قيمية – فتح الباب أمام تنازعات مذهبية، ومحاولات احتكار السلطة باسم الدين، وأنتج صيغًا سلطوية متناقضة، ليس فقط بين الإسلاميين والآخرين، بل حتى داخل البيت الإسلامي نفسه.

ثالثًا: المآزق التطبيقية للإسلام السياسي في العراق

بعد عام 2003، وصل الإسلاميون من الشيعة والسنة إلى الحكم، فظهرت الإشكالات التالية:

تعدد التأويلات المذهبية للإسلام السياسي (الشيعي والسني) أدى إلى تقاطع في المشاريع بدل توحدها.

استغلال الإسلام لتبرير المحاصصة الطائفية، لا لبناء دولة العدالة أو الشورى كما طُرحت نظريًا.

انهيار صورة الإسلام في المخيال الشعبي بسبب تلازم الخطاب الديني مع الفساد والفشل الإداري والسياسي.

وهذا يقود إلى نتيجة مفصلية: تحويل الإسلام إلى أداة للحكم أضعف صورته كمصدر قيمي وحضاري جامع.

رابعًا: الإسلام كرافد قيمي لا نظام سياسي شامل

في ضوء تجربة الإسلاميين، وفي ظل واقع الدولة التعددية الحديثة، فإن إعادة تعريف دور الإسلام في الدولة يجب أن يسير وفق المحددات التالية:

الإسلام ليس هوية الدولة، بل أحد مكونات الهوية الحضارية للمجتمع.

قيم الإسلام العامة (كالعدل والكرامة والرحمة والمساواة) يجب أن تُستوعب في القانون والسياسات، لا أن يُفرض نظام فقهي واحد على الجميع.

لا يمكن إقامة دولة المواطنة على أساس ديني واحد في مجتمع يضم المسلمين والمسيحيين والصابئة والإيزيديين وغيرهم.

وهنا يظهر الخيار الأنضج: الاحتفاظ بالإسلام كمصدر حضاري وثقافي وأخلاقي، لا كمشروع سلطوي مغلق.

خامسًا: الدولة الحضارية الحديثة كإطار جامع

تطرح فكرة الدولة الحضارية الحديثة حلاً وسطًا وعمليًا، إذ:

تعترف بالإسلام كرافد من روافد الهوية الحضارية العراقية.

تُبقي للدين مكانته في الضمير العام، دون تحويله إلى أداة هيمنة أو إقصاء.

تبني شرعيتها على المواطنة والعقل والعمل والعلم والتعددية، لا على الحق الإلهي أو الشرعية المذهبية.

وفي هذا الإطار، يمكن الاستفادة من تراث السيد الصدر وغيره من المراجع الكبار، لا بصفته مشروع دولة دينية، بل كمصدر لإغناء القيم والسياسات من داخل المنظومة الحضارية العراقية.

خاتمة

ليس المطلوب إقصاء الإسلام من الحياة العامة، ولا تهميش تراث المرجعيات الدينية، بل إعادة وضع الدين في موقعه الطبيعي: مكوّن قيمي وإنساني وروحي ضمن نسيج حضاري متعدّد. هذا هو الطريق لبناء هوية وطنية عراقية جامعة، لا تُقصي أحدًا ولا تُمكّن أحدًا من احتكار الدولة باسم المقدس.

يمكن القول نظريًا وبكل اتزان: ان الإسلام، بوصفه معطًى ثقافيًا وروحيًا عميق الجذور، يُعد أحد العناصر الأساسية في البعد الحضاري للهوية العراقية المقترحة، دون أن يعني ذلك إقصاء أتباع الديانات الأخرى أو تهميش حضورهم في تشكيل هذه الهوية.

وهذا الطرح يجمع بين ثلاث ركائز متوازن:

الاعتراف بالإسلام كرافد حضاري حقيقي:

لا يمكن الحديث عن هوية العراق الحضارية دون الإقرار بدور الإسلام التاريخي والثقافي والمعرفي.

التحرر من اختزال الهوية بالدين الواحد:

فالعراق لم يكن يومًا أحادي الدين أو المذهب، بل هو متعدد منذ آلاف السنين.

إدماج الجميع ضمن مشروع حضاري جامع:

حيث يُسهم المسلم والمسيحي والصابئي والكردي والتركماني… في تشكيل “الهوية الحضارية العراقية” على أساس المواطنة والتعدد والكرامة والعمل المشترك.

وهذا المنهج متسق تمامًا مع فكرة في “الدولة الحضارية الحديثة”، التي ترى في:

الدين: مصدرًا للقيم والمعنى، لا أداة حكم.

الدولة: كيانًا مدنيًا جامعًا، لا طائفيًا ولا قوميًا.

الهوية الوطنية: مزيجًا متكاملاً من الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل، حيث يحتل الدين بعدًا معنويًا وحضاريًا لا إقصائيًا ولا طريقا للهيمنة والاستبداد الديني.

 


مشاهدات 63
الكاتب محمد عبد الجبار الشبوط
أضيف 2025/06/28 - 12:18 AM
آخر تحديث 2025/06/28 - 5:57 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 152 الشهر 17179 الكلي 11151833
الوقت الآن
السبت 2025/6/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير