الكريسمَس كل عامٍ وأنتم بخير
منتصر صباح الحسناوي
تزامناً مع أيّام الشتاء القليلة في العراق، تأتي هذه المناسبة»الكريسمَس» لتكون متنفساً للفرح وسبباً للتفاؤل، تتجاوز أصولها الدينية لتغدو ظاهرةً اجتماعيةً ذات دلالاتٍ إيجابية في المحبة والتواصل، شأنُها شأنَ كثيرٍ من المناسبات التي يشترك فيها العراقيون مع بعضهم.
أحياناً يُطالَب «الكريسمَس» بما لا يُطالَب به غيره، يُسأل عن نواياه، ويُفتَّش في رموزه ويُحمَّل فوق ما يحتمل من تأويلات، حتى يتحوّل من مناسبة فرح إلى موضوع جدال، يتضخّم بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت انتشار هذا النوع من النقاشات وأسهمت في تكريس ما يُعرف «بثقافة الإلغاء» .
في هذا السياق يغيبُ سؤالٌ أبسط وأكثر واقعية: كيف يتعامل المجتمع العراقي فعلياً مع هذه المناسبة؟
من يزور العراق في هذه الفترة، ويتجوّل في مدنه وأسواقه ومقاهيه، يلاحظُ حضورَ شجرة الميلاد في أماكن لا علاقة لها بالمعتقد الديني ولا بالمؤسسات الرسمية ولا بالنُخب الثقافية، تظهر في محال صغيرة وفي مطاعم شعبية وفي ساحات عامة، بوصفها زينة موسمية مألوفة.
هذا الحضور لا يمكن تفسيره بالإكراه ولا بالمجاملة وإنّما بالقبول الاجتماعي الهادئ الذي لا يحتاج إلى تبرير ولا إعلان.
خطاب متشنج
الواقع اليومي يكشفُ فجوةً واضحةً بين الخطاب المتشنج الذي يُثار أحياناً وبين السلوك الاجتماعي الفعلي الذي يكون أقل صدامية وأكثر براغماتية من الصور التي تُرسم له.
القارئُ لتاريخ العراق الاجتماعي يستطيع تفسير هذا السلوك، فالعراق لم يكن في أيّ مرحلةٍ فضاءً أحادياً منغلقاً وإنّما تشكّل عبر تاريخه من التعدد الديني والقومي والثقافي وهو ما أسهم في تقارب الناس وعيشهم جنباً إلى جنب، تقاسموا الأسواق والمهن والمناسبات، فكان التعايشُ ممارسةً يومية فرضتها الحياة المشتركة.
ضمن هذا السياق اكتسبت المناسبات الدينية طابعاً اجتماعياً يتجاوز أصحابها دون أن يُلغي خصوصيتها.
كان العراقي وما يزال يشارك في أفراح جيرانه ومعارفه بدافعٍ اجتماعيٍ وإنساني، لا بدافعٍ عقديٍ وهو الحال نفسه في المناسبات الإسلامية التي تشارك فيها الأديان الأخرى. الفرح يُزار والتهنئة تُقال والمناسبة تُحترم والحزن يُتشارك فيه. هذا السلوك جزءٌ راسخٌ من أخلاقيات العيش المشترك.
صراعاتٍ سياسية
الأعوام الصعبة التي مرّ بها العراق زادت من حساسية هذا النقاش، إذ جرى خلالها توظيف الهويات في صراعاتٍ سياسية وأمنية، غير أنَّ ما يلفت الانتباه أنّ المجتمع، كلما خفّ الضغط، عاد إلى أنماطه القديمة في التعايش. هذا يشير إلى أنَّ التعدد لم يكن المشكلة وإنّما الطريقة التي جرى استغلاله بها.
العراق، بهذا المعنى يقدّم نموذجاً واقعياً لتعدد الهويات وتكاملها، من دون ادّعاء المثالية، فالتكامل هنا يعني القدرة على الاستمرار رغم الخلافات المُدخلة، دون تحويلها إلى قطيعة.
هذا النموذج يتجلّى في التفاصيل الصغيرة أكثر مما يظهر في الخطابات الكبرى.
الحديث عن الكريسمَس في العراق يمكن أن يكون مدخلاً لإعادة النظر في علاقتنا بالمناسبات المختلفة وفي قدرتنا على تركها تؤدي وظيفتها الطبيعية في التقارب، حين نخففُ عنها عبء الجدل وننظر إليها في سياقها الاجتماعي، نكتشف أنها جزءٌ من نسيج أوسع من المحبة والاعتياد، نسيج تشكّل عبر التاريخ وصمد رغم كل ما مرّ به البلد.
المجتمع المحب لا يحتاج إلى إثبات محبته عبر الشعارات ولا إلى الدفاع عنها في كل مناسبة، يكفي أن تُترك الحياة اليومية لتتكلم، إذ إنّ فيها ما يكشف عن عمق التعايش أكثر مما تفعل أيُّ خطابات أخرى.
كل عام وأنتم بخير