نقطة ضوء
من يأكل ومن يغسل الصحون؟
محمد صاحب سلطان
عندما كنا طلبة بقسم الأعلام في كلية الآداب بجامعة بغداد، منتصف سبعينيات القرن الماضي، وفي صباح ملبد بالغيوم، تقاطرنا على مبنى (الإدريسي) القاعة الرئيسية في الكلية، التي كانت تغص على إتساعها بمن توافدوا إليها بلهفة الظمآن للمطر، للإستماع إلى محاضرة الصحفي الكبير كامل زهيري، أحد أساطين الأعلام والرأي العام العربي آنذاك، كضيف قادم من القاهرة، وعند إجتياز الضيف عتبة القاعة يرافقه أستاذنا الدكتور سنان سعيد رئيس القسم (رحمه الله)، رفض الحاضرون الجلوس إكبارا وإجلالا لعلمهما وأحتراما لماضيهما، حتى توسطا المنصة، وبقي الجمع واقفا وصامتا وكأن على رؤوسهم الطير،هيبة للعلم، حتى أتت إشارة أستاذنا سنان بضرورة الجلوس، وبعد التقديم ، إستهل الضيف محاضرته بسؤال وجهه إلى الطلبة، مفاده (هل يؤتمن الثعلب على الدجاج؟)، فتململ الجميع، ودبت الهمهمات، وقبل أن ترتفع الأيادي بالإجابة المتوقعة (طبعا لا)، داهمنا بسؤال آخر، (هل صحيح إن العرب ليس لهم أي حساب عند العالم إلا في البنوك)، وعندها سمعت تعليقات لمن كان بجانبي، بصوت خافت وبكلمات متقطعة ،جئنا نستمع لمحاضرة في الإعلام وهاهي تبدأ بالثروة الحيوانية والمالية؟، وقبل أن يكمل، حدثت الصدمة المباغتة الثالثة ،بسؤال جديد (هل صحيح إن العنق الأعزل لا يستطيع الأنتصار على سكاكين المفترسين؟)، ثم إبتسم الضيف بعد أن بدت الحيرة على الوجوه، وقال: هذا هو الدرس الأول لمن يمتهن الصحافة، أن تهتم بالسؤال أكثر من الإجابة، وأن يكون مباشرا وواضحا، سواء أكان في مقابلة أو تحقيق أو تقرير أو خبر، أما عن ما طرحته من أسئلة ، فسأجيب عنها مجتمعا، فكل مواطن في أرض العرب، يحمل في صدره من مرارات الماضي، بقدر ما يحمل من الآمال في المستقبل، لإن كل طبخة سياسية في منطقتنا، أمريكا تعدها، وروسيا توقد تحتها، وأوربا تبردها، وإسرائيل تأكلها، والعرب يغسلون الصحون!، بيد إن أحلام إسرائيل أطول من حدودها، فهي لو أعطيت القطب الشمالي من الكرة الأرضية، لطالبت بالقطب الجنوبي أيضا لحماية أمنها من القطب الشمالي!، ولأجل ذلك أقول إن صراعنا مع الصهاينة، واضح كل الوضوح ، صراع وجود وليس صراع حدود فحسب ، أما قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها تصاغ بدقة متناهية، كأبتسامة الجوكندا، بحيث لا أحد يعرف، إن كانت تبتسم لنا أم تسخر منا!، وبعدها إنهمرت عليه اسئلة الطلبة (العفاريت) كما أسماهم مازحا، أجاب عنها مفصلا، بعدها أغلق دفتره وغادر وسط إحتفاء كبير يليق بمقامه... وها أنا اليوم وبعد مرور زمن قارب الخمسة عقود على تلك الذكرى، إكتشفت كما إكتشف من سبقنا، بإن كل تأكيدات أصحاب الشأن من سياسين وأحزاب وحكومات ومنظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام التقليدي والجديد، بما فيها القنوات الفضائية التي تعمل بأجندات خاصة، لا تعني أكثر من لغة تاجر يريك الحنطة ويبيعك الشعير،يغريك بكلامه المعسول، يعد مجرد تجارة تبنى على مصلحة من يكسب أكثر، مثل لعبة مقامرة لا صالح فيها إلا الغش، وهاهي غزة وباقي الأراضي العربية المحتلة، تئن تحت وطأة الظلم والحرمان والجور والبطش، كل لحظة، وشعبها يستغيث ولا من مجيب، حتى فقد الأمل بعد أن غدت الحياة الوجه الثاني للموت، اللهم سترك!.