إقصاء ممنهج : لغة العرب في اسرائيل أكرمُ من لغة الكُرد في العراق
آريان ابراهيم شوكت
تُعدّ اللغة القومية إحدى الركائز الجوهرية في بناء هوية الشعوب ووجودها الحضاري؛ فهي الوعاء الحافظ لتاريخ الأمم، وسجل ذاكرتها الجماعية، والمرآة التي تعكس عاداتها وتقاليدها وقيمها الاجتماعية. ومن خلالها يُصان التراث والتاريخ، ويزدهر الأدب والشعر بوصفهما تعبيرًا صادقًا عن وجدان الشعوب وطموحاتها. لذلك، فإن حماية اللغة القومية ليست ترفًا ثقافيًا، بل حقٌّ مشروع، وواجب حضاري يضمن استمرارية الهوية عبر الأجيال.
وليست اللغة القومية مجرد وسيلة للتواصل، بل هي جوهر الهوية الوطنية، وشرط أساسي لوجود الشعوب وكرامتها السياسية. فاللغة تحفظ التاريخ، وتصون الذاكرة الجماعية، وتُعبّر عن الوعي والوجدان، وأي مساس بها ليس فعلًا إداريًا عابرًا، بل قرارًا سياسيًا يُصيب جوهر الانتماء والحقوق الأساسية للشعوب.
في العراق، ينص الدستور بوضوح لا يقبل التأويل على أن اللغة الكُردية لغة رسمية إلى جانب العربية. غير أن هذا النص الدستوري يواجه، منذ سنوات، عملية تعطيل متعمّدة وممنهجة. فاللغة الكُردية تُقصى تدريجيًا من المؤسسات الرسمية، وتُغيب عن اللوائح الحكومية، وعناوين الشوارع، وأسماء الوزارات والدوائر، والمراسلات الرسمية والاماكن العامة، في انتهاك صريح للدستور، وكأن الدولة نفسها تتعامل مع وثيقتها العليا بوصفها نصًا شكليًا لا يلزم أحدًا !!.
هذا التهميش لا يمكن عزله عن سياقه السياسي. فهو ليس نتيجة إهمال إداري، ولا خلاف ثقافي أو ديني، بل سياسة واضحة تهدف إلى فرض هيمنة لغوية واحدة، وتحويل القومية الثانية في البلاد إلى شريك من الدرجة الثانية. يحدث ذلك رغم أن الكُرد يشتركون مع بقية أبناء العراق والامة العربية في الدين وبناء الحضارة، والتاريخ منذ فجر الاسلام ومروراً بكل العصور الاسلامية اضافة الى المصير المشترك، وقدموا تضحيات جسيمة في سبيل بناء الدولة والدفاع عنها على مدى أكثر من مئة عام ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى هذه اللحظة .
إن تجاهل اللغة الكُردية هو انتهاك مباشر لحقوق دستورية ثابتة، وطعن في مبدأ الشراكة الوطنية، وضرب لفكرة التعددية التي يتغنّى بها الخطاب الرسمي العراقي ؟ . كما أنه يطرح سؤالًا خطيرًا حول جدية الدولة العراقية في احترام التزاماتها الدستورية، ومدى إيمانها الحقيقي بمفهوم المواطنة المتساوية.
وما يزيد المشهد قتامة هو التناقض الصارخ بين ما يحدث في إقليم كُردستان وما تمارسه الحكومة الاتحادية. ففي الإقليم، تُحترم اللغة العربية وتُدرَّس إلى جانب الكُردية، وتُكتب اللوحات الرسمية وأسماء المحلات والمؤسسات الحكومية باللغتين الكُردية والعربية، في نموذج عملي للتعايش السلمي و اللغوي والشراكة الوطنية الحقيقية . أما في بغداد وبقية المحافظات العراقية الاخرى، فتُقصى الكُردية عن عمد، ويُتعامل معها وكأنها لغة هامشية بلا قيمة رسمية، رغم الاعتراف الدستوري الواضح بها.
وتبلغ المفارقة حدّها الأقصى عند مقارنة الوضع العراقي بدول أخرى تعيش صراعات وجودية مفتوحة. فإسرائيل، على الرغم من تاريخها الدموي الطويل مع العرب والفلسطينيين، لا تزال تمنح اللغة العربية وضعًا قانونيًا وحضورًا واسعًا في التعليم، والصحة، والمراسلات الحكومية، ولوحات الشوارع والاماكن الدينية و العامة واللوحات الإرشادية، وحتى أسماء الشوارع والمباني العامة. وعلى الرغم من ان الاختلاف بين الإسرائيليين والفلسطينيين على النقيض تماما ومستحيل الجمع بينهما و أكثر جذريًا من أي اختلاف بين الشعبين الشقيقين العربي والكُردي في العراق والمنطقة ؟!، ومع ذلك تُحترم اللغة العربية في مدن اسرائيل أكثر من احترام لغتنا الأم ( الكُردية ) داخل العراق ؟! وإذا كانت دولة اسرائيل القائمة على صراع عميق ومرير ملطخ بالدم والمأساة قادرة على احترام لغة العرب الطرف الذي تحاربه ؟، فكيف تعجز دولة مثل العراق التي تجمعها مع شعبها الكُردي روابط الدين والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد ولا تحترم لغتهم الأم؟ لكن السبب يفك طلاسم العجب !!؟..
إن احترام اللغة الكُردية لا يُضعف العربية، ولا يهدد وحدة الدولة، بل على العكس، يعزز الانتماء الوطني، ويؤسس لدولة مدنية حديثة تحترم التنوع بوصفه مصدر قوة لا تهديدًا. أما الاستمرار في تهميش اللغة الكُردية، فهو رسالة سياسية سلبية تؤكد غياب الإرادة الجادة لبناء شراكة وطنية حقيقية.
لقد آن الأوان لوضع حدٍّ لهذه السياسة الإقصائية، وإعادة الاعتبار للغة الكُردية بوصفها مكوّنًا أصيلًا من هوية العراق، لا منّةً ولا تنازلًا، بل التزامًا دستوريًا غير قابل للمساومة. فإحياء اللغة الكُردية ليس قضية ثقافية فحسب، بل معركة حقوق وعدالة، واختبار حقيقي لمدى ديمقراطية الدولة العراقية.
إن تجاهل لغة القومية الثانية في العراق ليس فقط خرقًا للدستور، بل إهانة للتاريخ المشترك، وتقويض لأسس العدالة والمواطنة المتساوية. وإذا استمرت الدولة في هذا النهج، فإنها تُعمّق الشرخ الوطني بدل أن تعالجه، وتدفع نحو مزيد من فقدان الثقة بين مكونات المجتمع العراقي.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج العراق إلى قرار سياسي شجاع يعترف بالكُردية كلغة رسمية فعلية لا اسمية، ويترجم هذا الاعتراف إلى سياسات وممارسات ملموسة في مؤسسات الدولة. فدون ذلك، سيبقى الحديث عن الدستور، والديمقراطية، والتعايش، مجرد شعارات فارغة لا تصمد أمام الحاضر و الواقع والمستقبل .