حيث تُدفن الذاكرة في مخزن يخرُّ ماءً
مهند الدليمي
في أول أسبوع لي في وزارة الثقافة كان يفترض أن يكون أسبوع “التعارف”. جرخلة رسمية من قسم لقسم، مصافحة هنا، ابتسامة هناك، وكلام من نوع:“أهلاً وسهلاً… نورت الوزارة”.
لكن النور الحقيقي كان ينتظرني في الطابق الأرضي، في مكان أشبه بسرداب، لا يدخله الضوء إلا متسرباً من فتحة سقف تخرّ مياهاً مثل صنبور خربان.أدخلوني مخزناً للاعمال الفنية يشبه المقابر الجماعية.لوحات الروّاد مرمية مثل أثاث مستهلك، منحوتات مركونة كأنها خردة، الرطوبة تحفر في الجدران، والماء الثقيل يقطر على ذاكرة الفن العراقي بلا أي حياء.
قالوا لي ببرودة اعصاب الموظف المدمن على العشوائية: “هاي أعمال الروّاد.”
هكذا، بجملة واحدة، تُختزل أعمار فنانين صنعوا تاريخ العراق الجمـــــالي، وتُلقى منجزاتهم في مخزن لا يصلح حتى لخزن بقايا احذية قديمة.
وفي تلك اللحظة نفسها كانت الوزارة تستعد لصرف عدة ملايين على مهرجان تشكيلي: طائرات، سيارات، فنادق، مطاعم، بوفيهات، استقبال، توديع، وتلميع للمظهر أمام الضيوف.
لكن أحداً لم يفكر للحظة واحدة أن يأخذ هؤلاء الضيوف في جولة قصيرة على “مخزن الروّاد”. السبب بسيط:من المستحيل بيع الوهم للناس إذا تعرفوا على الحقيقة بأنفسهم.
ومع احترامنا للمغني سعدون جابر، يبقى السؤال القاتل:كم فناناً أعمق منه أثراً يعيش اليوم بضنك وعوز وفاقه ويسكن في دار مستأجرة.كم عالما ومبدعاً أفنوا اعمارهم في تخصصاتهم وانتهى بهم الحال ان ينافسوا الفقير على رغيف خبز؟
وكم اسمٌ تستحي وزارة الثقافة من ذكره لأنه لا يصلح للعناوين البراقة، بل يصلح تماماً للخشوع أمام موهبته؟
المأساة أن السياسي النافذ في العراق لديه مشكلة بنيوية في الذوق، لا يفرّق بين لحم الغزال واللحم الهندي المجمد.لا يفرّق بين العمل الفني الأصيل وبين لوحة “ديكور” بائسة تُعلّق خلف مكتبه.الثقافة عندهم ليست مشروع بلد، بل مشروع مناسبة. وليست ذاكرة شعب، بل ديكور ضيافة.لهذا تُلقى كنوز الفن العراقي في مخزن يخرُّ ماءً،بينما تُرمى ملايين الدنانير على مهرجانات تُنسى قبل أن يجف حبر بوستراتها.هذه ليست وزارة ثقافة، هذه وزارة “الفعّاليات المتعجلة”،وزارة “التصوير مع الضيوف”،وزارة “الإنجاز اللحظي”.أما الثقافة الحقيقية، فمكانها – للأسف – في ذلك المخزن الذي رأيته في يومي الأول .. حيث تُهان الذاكرة، وتُهمل الروائع، وتبكي الجدران ماءً أثقل من خذلان الدولة لعلمائها وفنانيها الحقيقيين.