من يرفع ثقل الخرسانة عن أكتاف الجامعات العراقية ؟
إسماعيل محمود العيسى
في الوقت الذي تتجه فيه الدول نحو بناء جامعات عصرية بمعايير اعتماد دولية، ومختبرات مطابقة للنظم العالمية، ما تزال الجامعات الحكومية في العراق تحمل فوق أكتافها ثقل الخرسانة ومهمات الإعمار والصيانة والتأهيل الهندسي التي تستنزف إداراتها وتفكك أولوياتها، بدل أن تتفرغ لإصلاح العملية التعليمية وتطوير المناهج ودعم البحث العلمي,فعلى الرغم من وجود دائرة المشاريع في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بوصفها الجهة الفنية الطبيعية، إلا أن دورها ظل محصورًا في الإحالة والمتابعة والتدقيق والإشراف لا في التنفيذ المباشر، وهو ما أنتج تعددًا في الصلاحيات وتشتتًا في القرارات وتداخلًا بين الإدارات الجامعية، وفتح أبوابًا واسعة لغياب الرؤية الهندسية الموحدة وخلق مساحات للفساد وضعف الجودة.إن دائرة المشاريع في الوزارة ينبغي أن تتحول إلى ذراع هندسية تنفيذية كاملة، تمتلك مسؤولية التصميم والبناء والتأهيل والصيانة داخل مؤسسات التعليم العالي، وتعمل بكوادر الوزارة ذاتها من مهندسين وفنيين وخبرات تخصصية في العمارة والمدني والديكور والكهرباء، بحيث تتولى تنفيذ المشاريع مباشرة دون المرور بسلسلة الإحالة إلى المقاولين والمتعاقدين الخارجيين، فالفصل الطبيعي بين الوظائف الأكاديمية والهندسية هو أصل من أصول الإدارة الحديثة، حيث تتولى الإدارات الأكاديمية شؤون التعليم والجودة والبحث، فيما تتولى الأجهزة الفنية المختصة شؤون البنية التحتية وتنفيذ المشاريع، وبهذا النموذج تكون المحاسبة واضحة، والمواصفة دقيقة، والقرار موحدًا، وتتحقق الخبرة التراكمية داخل جهاز الدولة نفسه بدل ضياعها بين مناقصات وتعاقدات موسمية متبدلة.
وما يدعم هذا الطرح ما اطلعت عليه شخصيًا خلال مشاركتي في مؤتمر الشبكة العربية لجودة التعليم العالي بالرياض، حيث حضرت إحدى الورش العلمية التي قدمها أحد رؤساء الجامعات السعودية، موضحًا كيف تبنت المملكة العربية السعودية إستراتيجية واضحة تقوم على رفع عبء الإعمار والصيانة والتأهيل عن الجامعات والعمادات وإسناد هذه المسؤولية بالكامل إلى الدائرة الهندسية في وزارة التعليم، ليس للمتابعة فقط بل للتنفيذ المباشر، وقد عرض المتحدث نتائج هذا التحول، والتي تمثلت في نقلة عمرانية واسعة داخل الجامعات السعودية، وتحسن جودة البناء والمختبرات، وتراجع فرص الهدر وتعثر المشاريع، وتحرر الإدارات الأكاديمية من أعباء الخرسانة لتتفرغ لبناء البحث العلمي والتعاون الدولي والارتقاء بمنظومة التعليم، وكان أغلب هذه الخطوات قد جاء استجابة لتقارير رقابية وملاحظات فنية أكدت أن تعدد المناقصات وتداخل الصلاحيات كان أحد أهم مصادر التعطيل وضعف الكفاءة، وأن الحل الأمثل كان في جهة تنفيذ حكومية واحدة تمتلك القدرة على التصميم والتنفيذ والمتابعة والمحاسبة معًا.
وليس النموذج السعودي إلا مثالًا من بين نماذج أخرى سبقتنا إلى هذا التحول؛ ففي تركيا تتولى مديرية الأبنية الجامعية في وزارة التعليم مسؤولية بناء المختبرات والقاعات والبنى الأساسية وفق أنماط موحدة وبمواصفات ISO، وفي الصين أسندت وزارة التعليم مهمة إعمار الجامعات وتنفيذ مشاريعها إلى جهاز هندسي مركزي منذ التسعينيات، يعمل كوحدة تنفيذ مباشر لا كوحدة إحالة، وفي الإمارات تم تأسيس مكتب خاص بالبنية الجامعية داخل وزارة التعليم يتولى تصميم وتنفيذ المنشآت الجامعية بالكامل دون أي تداخل مع الإدارات الأكاديمية، وكل هذه النماذج تشترك في فكرة واحدة واضحة: أن البنية الجامعية مسؤولية جهة تنفيذ هندسي حكومية لا إدارات أكاديمية، وأن السيطرة على جودة البناء تتطلب مؤسسة تنفيذ واحدة وليست عشرات المسارات وأسماء المقاولين.
تنفيذ مباشر
وإن اعتماد مبدأ التنفيذ المباشر عبر دائرة المشاريع داخل وزارة التعليم العالي يفتح الباب للعمل وفق نظام النافذة الواحدة، بحيث تكون جهة واحدة مسؤولة عن التصميم والتنفيذ والصرف والمتابعة والفحص والتدقيق واستلام المشاريع، وهو ما يقلل الفرص أمام التلاعب والفساد والهدر، ويضبط الصرف بآليات موحدة، ويجعل المحاسبة واضحة دون تضارب في القرارات أو تشتت في المسؤوليات، فالجامعة ليست جهة عقود ولا العميد خبير هندسة خرسانية، وإدارات التعليم العالي حين تنشغل بالتسعير والمتابعة والتدقيق والفحص وفك الاختناقات الفنية، فإنها تتراجع عن رسالتها الأساسية في تطوير التعليم ومنظومة الاعتماد وضمان الجودة، بينما تسمح للدائرة المختصة بأن تمارس خبراتها المتراكمة وتبني المشاريع بمعايير عالمية.
رقابة مالية
وفي هذا الإطار، لا يمكن إغفال دور ديوان الرقابة المالية الذي يجب أن يُعاد تنظيم مساحته داخل مشروع الإصلاح بوصفه جهة مرشدة وداعمة ومرافقة لا جهة مثبطة أو متأخرة، فالمطلوب هو رقابة مُعزِّزة لجودة التنفيذ وضابطة للصرف وهدر المال العام، رقابة تتدخل مبكرًا وتواكب مراحل المشروع بدل الحضور المتأخر بعد وقوع المخالفات، إن تحويل الديوان إلى شريك هندسي–مالي مرافق لدائرة المشاريع، يخلق بيئة رقابية صحية قائمة على الشفافية والضبط والمحاسبة العادلة، ويغلق منافذ الفساد، ويوحد الإجراءات، ويضمن تطبيق المواصفات القياسية في البناء والمختبرات والقاعات والمرافق الجامعية.ولكي نحقق انعطافة حقيقية في تأهيل البنى التحتية الجامعية في العراق، فإن دائرة المشاريع ينبغي أن تمتلك صلاحية التنفيذ المباشر وأن تتجمع تحت سلطتها جميع الخبرات الهندسية في تشكيلات الوزارة من كليات الهندسة والورش والمختبرات وأقسام العمارة والديكور، وأن تُمنع الجامعات من الدخول في أي تعاقد أو إحالة أو مناقصة، وأن تُدار جميع المشاريع بمواصفات قياسية موحدة معدة مسبقًا وفق متطلبات الاعتماد الأكاديمي الدولي، كما يتوجب تشكيل لجان رقابية مرافقة مع ديوان الرقابة المالية بوصفه المرشد المالي والهندسي لهذه الأعمال، واعتماد نظام النافذة الواحدة في الصرف والمتابعة والمحاسبة.وتأسيس بنك مركزي للمشاريع الجامعية يتولى توثيق النماذج التصميمية والبناء المتوافق مع المناخ والسلامة ومتطلبات الاعتماد الأكاديمي.إن البيئة الجامعية ليست رفاهية إنشائية، بل معيارًا جوهريًا لقياس جودة الأكاديميات ومختبرات الاعتماد، فالمعايير الكمية من قاعات ومختبرات ومرافق فحص ومنظومات السلامة والتقنيات الذكية هي الأساس الذي يُبنى عليه التعليم النوعي والبحث العلمي والتطوير المهني.
بقية المقال على الموقع الالكتروني لجريدة (الزمان)
وعندما تُرفع عن الجامعات أعباء الخرسانة وتُعاد مسؤولية البناء إلى الجهة الطبيعية المختصة، وتتوجه الإدارات الأكاديمية إلى رسالتها الأصلية في التعليم والمعرفة والبحث، يصبح الحديث عن الاعتماد الدولي وتصدير المعرفة والتنافسية الأكاديمية حديثًا واقعيًا قابلًا للتحقق.
ويبقى السؤال مطروحًا أمام صانع القرار: من يرفع ثقل الخرسانة عن أكتاف الجامعات العراقية؟ وهل آن الأوان لتحويل دائرة المشاريع إلى جهة تنفيذ مباشر حقيقي تعيد رسم بيئة التعليم العالي على أسس ومعايير تقودنا نحو الاعتماد والجودة والتنافسية العالمية؟