السـيرة الذاتيـة فـي ادب العقاد
كـريم عـبيـد علـوي
شكَّلتْ سلسلةُ العبقريات علامةً فارقةً في منجز العقاد في البحث عن سرِّ التفوق والنبوغ لدى أبرز الشخصيات في التاريخ العربيّ الإسلاميّ ، وتبقى كتبُهُ : ( الله) و( إبراهيم أبو الأنبياء) و ( الإنسان في القرآن) لوناً مختلفاً في الكتابة الدينية ؛ إذْ هي أقربُ إلى تخصص علم الأديان المقارن وحقل أنثروبولوجيا الدين ؛ فقد دشن لوناً مختلفاً في الكتابة قبلَ أنْ يُدشنها غيرُهُ بعقودٍ طويلةٍ من الزمنِ .
وأَبْدَعَ في النَّقدِ فكتبَ ( الدّيوانَ) بمعية المازنيّ فأَسْهمَ فيْ مسارِ حَداثةِ النَّقدِ العربيّ فيْ بَواكيره ِالمُعاصِرة عبر مدرسة الدّيوان ومن خلال معاركه الأدبية مع شعراء وكتاب عديدين .
ولَهُ نتاجٌ ضخمٌ في التَّاريخ والسياسة والفلسفة والفكر , ولم يحالفه التوفيقُ في كتابة الشّعر وكتابة الرواية على الرغم من محاولاته الجادة في ذلك .
ولا يمكن أن يُقَيَّمَ نتاجُ العقاد خارج إطار مفهوم (تاريخانية النَّص) بكل ما للمصطلح من مفهوم نقديّ .
فمَنْ مِنِ القراء المعاصرينَ يمكنه أنْ يتفاعلَ أو يجدَ مُتعةً في القراءة مع كتابهِ عن النازية وهتلر مثلاً ؟ هذا الكتاب الذي كان له صدى مهم ضمن تلقياتِ عَصْرِهِ المتزامنة للحرب العالمية الثانية , وغيرُ هذاْ كثيرٌ .
وللعقاد كتابانِ عنْ سِيرتِهِ هُمَاْ ( أنا) وكتابه الثاني (سيرة قلم ) , والأولُ الذي حملَ عتبةً نصيَّةً مُفارِقةً في عنوانهِ المتجسد في كلمةٍ واحدةٍ ( أنا) كانَ عبارةً عن مقالاتٍ صحفيةٍ عَنْ سيرتهِ وطفولتهِ ونشأته وأَسرته استكتبته فيها مجلةُ الهلالِ , وهو ــ في ظني المتواضع ــ أقربُ إلى السيرة الذاتيَّة من الثَّاني ( سيرة قلم) فهو أقربُ إلى السِّيرة المهنية والفكرية تحدَّث فيه عن مسيرته في الكتابة والعمل في الصحافة والسياسة و تحدث مفصلاً عن رأيه في الفن والأدب والدين والحياة , وهذه الثنائية في الكتابة والتمييز بين سيرتين سيرة ذاتية حياتية اجتماعية وأخرى مهنية فكرية ربما هي التي ألهمت المفكرَ والفيلسوفَ زكي نجيب محمود التمييزَ بينهما في الكتابة فيما بعد حينما عمد إلى كتابة سيرته ؛ ففي كتابه الأول ( قصة نفس) تحدث زكي نجيب محمود عن نشأته وحياته وأسرته ودراسته بأسلوب رمزيّ , وفي كتابه الثاني( قصة عقل) اختار الحديثَ عن فكره وتحولاته وفلسفته في الحياة والوجود .
رؤية فكرية
ولم ينتهجْ المفكرُ المغربيّ محمد عابد الجابري النهجَ نفسه في سيرته ( حفريات في الذاكرة من بعيدة ) فقد غلبت فيها السّيرة الذاتية الشخصية , ولكنه فطن إلى أهمية تشكل رؤيته الفكرية عن الوجود والقيم فألحقَ كتابَهُ بما أسماه : بـ (نصوص ) وهي مقالات كان قد كتبها تتعلق بالمستقبل وقلق الشباب وأبرز الاسئلة الدينية العقائدية و المرأة والحب وغيرها , فهي عملية أرشفة وإعادة نشر لمقالات كان قد كتبها في ستينيات القرن العشرين تتعلق بمخاض تشكل أسئلته مكتفياً بانتخابِ نماذجٍ منها , ولكنه بعد حين وعد بإصدار الجزء الثاني المتعلق بسيرته وتحولاته الفكرية .
ولكنه لم يرَ النور بعد على الرغم من مضي سنوات عديدة على وفاته . ففي ظني إذا كان طه حسين هو رائد أدب السيرة العربي فإنَّ العقاد هو من دشن التمييز بين سيرة ذاتية وأخرى فكريَّة , و أوحى بها لمن بعدَهُ , وعلى أية حال فعلى الرغم من جرأة العقاد في الكتابة بنحو عامٍ لكن سيرته ( أنا) لم تتضمنْ اعترافاتٍ خطيرة كما هو معهود في فن السِّيرة ؛ فقد سادها الحذرُ والتَّحفظ ُ, فلم تشرعْ نافذةً على البوح والاعتراف كما صَنَعَ توفيق الحكِيْم في سِيرته ( سُجن العمر) فقد تضمنتِ الاعترافَ بخصوصياتٍ دقيقةٍ . ولم تتضمنْ ( أنا) العقاد حديثاً جريئاً عن الطفولة بتلقائيتها وعبثها ولعبها وسذاجتها ومخاوفها كما تضمنت ( الأيام ) لطه حسين النَّص المؤسس لفن السيرة المعاصر، فقد غلبت على ( أنا ) العقاد التأملات الفكرية في الطفولة والشباب والكهولة والحب والأمل والصحة والمرض وغيرها .
لقد مثلت الطفولة أبرز معالم أدب السيرة الذاتية ؛ لأنها تشكل التحدي الأكبر إزاء استدعاء الذاكرة واستنباتها في لحظات الكهولة وزمن الكتابة وإلى جنب ما لها من محطات مشرقة وسعيدة في عمر الإنسان بنحو عام فضلاً عن تحرر الكاتب من تبعات البوح ؛ فالطفل لا يُؤاخذ على ما يفعل في طفولته من حماقات وأخطاء .
والطفولة تمثل أجمل فصول السير الذاتية في مطالعة أدب السيرة في التشويق والتوثيق والاستبطان لأغوار نفوس الأطفال ذلك العالم المجهول لنفوس الكبار .
وما استأثرت به سيرة العقاد ( أنا) عن غيرها من سير الأدباء هو حديثه وتوثيقه لخلجات الفرح عند الطفل وأزمنتها التي يمثل العيد فيها محطة كبرى و ميقاتا بارزاً يتهيأ له الأطفال بلوازم من ثياب ونقود وحلوى وألعاب تملأ عليهم العيد بهجة وسروراً وألقاً.
وفي الختام تجدر الإشارة أنَّ كلمة ( أنا) صحيح أنها تمثل مشيراً لفظياً يُعيّنُ طرفَ الخطاب لكنها في متخيلها التداوليّ مشحونة جداً بإيحاءات سلبية عن ذات متعالية في اعتداد مفرط قد يُؤاخذ عليها صاحب السّيرة .
والحق لم تكن رغبة المؤلف منعقدة بهكذا عنوان , فقد كانت نيته أنْ ينشرَ تلك المقالات تحت عنوان موسوم بكلمة واحدة هي : (عني) يصدر فيما بعد في كتابٍ يضمُ ما تفرق مِنْ مَقالاتٍ , ولكن بعد وفاته اختارتْ مجلةُ الهلال ومحررُهاْ كلمة ( أنا) ، وقدْ يبدو اختياراً موفقاً لكنه لا يعكسُ رغبةَ العقادِ الحقيقيَّة في العنوان.
□ باحث وتدريسي في جامعة بغداد