كلام أبيض
صدقوني .. أثرد بصف الماعون
جليل وادي
هذا وأقصد (الثرد بصف الماعون) من بين الأمثال العراقية المتداولة التي تُضرب على الأشخاص الذين لا يمت كلامهم بصلة للموضوع الذي يجري الحديث عنه، او ان كلامهم من السطحية بمكان يفقد معها قيمته قياسا بالآراء التي تتناول موضوع الحديث. ولم يترك العراقيون موضوعا من دون أن يكون لهم فيه مثلا، ويكشف ذلك عن نضج تجربتهم الحياتية التي صقلها تاريخهم الطويل، وعمقّها التنوع الاجتماعي بمختلف أديانه ومذاهبه وأعراقه، ذلك ان التنوع قوة وتكامل على عكس ما يرى القادمون من الكهوف، والذين قوقعوا أنفسهم داخل أسوار فكرية متحجرة، والذين اتخذوا من الماضي سجنا لا يريدون لأنفسهم التحرر منه نحو المستقبل، وهؤلاء وأمثالهم يثردون (بصف الماعون) في عالم يتقدم بخطى متسارعة حتى صارنا بالنسبة له أناس بدائيين لا نستحق الحياة، وغير مؤهلين لإدارة ثرواتنا.
ويبدو اني أصبحت من بين الذين يثردون بصف الماعون، وكأني بعيد عن الواقع في آرائي ومقترحاتي، وربما يعود ذلك لانشغالاتي المتعددة التي تقلل من نسبة تفاعلي مع المجتمع خارج الجامعة التي هي موقع عملي، فقد كان في بالي اقتراح لإنشاء مدينة للفن في الناصرية بوصفها منبعا هائلا للإبداع، وان أغلب الفنانين الذين ذاع صيتهم داخل البلاد وخارجها من هذه المدينة العريقة ومنهم داخل حسن وحسين نعمة وطالب القره غولي وفاضل خليل وسناء عبد الرحمن والعشرات غيرهم، واذا بي أُصدم باعتراض شخصيات اجتماعية وأخرى سياسية على اقامة حفل غنائي للمطرب المبدع والمؤثر محمد عبد الجبار، ولولا الاصرار والتحدي ما كان لهذا الحفل أن يُقام، والأدهى من ذلك تخطيطي لكتابة مقال اذكّر فيه المعنيين بمشروع الأوبرا الذي مضى على اقتراحه عقدين من الزمن دون أن يجد تجسيدا له على الأرض.
تذكرني هذه الحادثة بالمسلسل الكوميدي (ابو البلاوي) الذي كتبه ومثل دوره الرئيس الفنان القدير خليل الرفاعي المعروف بأبي فارس، وكنت من بين المعترضين على هذا المسلسل الذي بدا لي حينها سطحيا لا قيمة له من ناحيتي المضمون والشكل الفني، اذ كانت حكاياته ساذجة، ولا يمكن مقارنته بأعمال درامية محلية أخرى، حتى استغربت كيف وافقت ادارة الاذاعة والتلفزيون على انتاجه، كما انتقدت أبي فارس لنزوله الى هذا المستوى الهابط وهو الفنان الكبير، لكني فوجئت بأن شريحة واسعة من المجتمع تتابع المسلسل وتنتظره بفارغ الصبر، وأدركت ان أبي فارس أعرف مني بأذواق الجمهور واهتماماته، بنظركم أليس هذا (ثرد بصف الماعون) من قبلي؟.
ومع ذلك لن أتوقف عن هذا (الثرد)، لماذا؟، لأن العراق بلد الفنون، ومحافظة ذي قار أكثر مدن العراق انغماسا فيه، كما هم أهل الديوانية والسماوة أكثر شغفا بالشعر، وهذا ليس وليد اليوم كما يحدث في (دول أول مبارح) التي تعرفون، بل منذ فجر التاريخ، ولعل (قيثارة رأس الثور) السومرية التي يعود تاريخ صناعتها الى العام (2600) قبل الميلاد، وعثر عليها عالم الآثار البريطاني (ليونارد وولي) خلال حفرياته ما بين عامي (1922 ــ 1934) في مقبرة اور الملكية دلالة قاطعة على ان أبناء هذه المدينة مهوسون بالفن والغنائي منه على وجه الخصوص، فالأصوات جميلة والأطوار شجية، ولولا جمالها ما رددت الأهوار صداها. وعليه أقترح نصب تمثال للقيثارة في وسط المدينة لتتمثلها الأجيال اللاحقة بدلا من السيوف والأسود وغيرهما من رموز العنف والموت.
قولي عني ما تقولون، وصفوني بالحالم الساذج، وغير الواقعي، والذي يتحدى الذين وجدوا في الاستثمار بالتخلف ما يحقق لهم ثراء ووجاهة آنية خلال حياتهم، والذين يرددون بيت أبي فراس الحمداني (ان مت ضمآنا فلا نزل القطر)، المهم ما يتحقق لهم من منافع راهنة، اما الغد وأجياله، فلا تعني لهم شيئا، وهم أنفسهم سيغيرون آرائهم المتخلفة بمجرد أن يتغير الجو السياسي العام.
يا سادتي: الحياة قائمة على ثلاثة أركان: العلوم والآداب والفنون، ولن تستقيم بقمع أي من هذه الأركان، وبلا فنون تفقد الحياة بهجتها، وهذا ما أدركه من كنا نصفهم قبل عقود بالرجعيين.
jwhj1963@yahoo.com