المثقف في زمن الإستقطاب السياسي.. صوت ضمير أم بوق سلطة؟
عصام البرام
في زمنٍ تتصاعد فيه أصواتُ الاستقطاب السياسي، يبدو على بزوغ بصيصٍ من السؤال الذي يلوح في الأفق الثقافي: أيّ دور يلعبه المثقف؟ هل هو صوت الضمير المنفصل عن السلطة، أم يتحول تدريجيًا إلى بوقٍ لها؟ هذا السؤال ليس تحصيلًا فكريًا فحسب، بل هو انعكاسٌ لحالةٍ مجتمعيةٍ وثقافيةٍ تكاد تستأصل معنى النقد المستقل وتعيد تعريف دور المثقف في ظلّ أزمتي الثقة والتمثيل. في هذا المقال، نحاول أن ندور حول هذا المحور، نقرأ فيه التغيرات التي طاولت المثقف، ونرصد كيف تحولت قناته أو روابطه، ونتساءل: هل ما زال بإمكان المثقف أن يكون صوت ضمير؟ أم أنه أصبح بوقًا للسلطة؟
المثقف كان عبر التأريخ، في الكثير من التجارب الوطنية، بمثابة نقطة ارتكازٍ في اللحظات المفصلية، سواء في المطالبة بالحرية، أو في إجابة السؤال عن الشرعية، أو في فتح ساحةٍ للحوار والجدل. إن مفهوم المثقف أرتبط بالهوية النضالية والنخبوية، فظهر في مشهد أوروبا نهاية القرن التاسع عشر حينما دافع المثقف عن الضابط اليهودي دريفوس، فكتب إميل زولا بيانه (إنّي أتهم) وانخرط في المسار، فابتدأت هذه الصورة للمثقف كمن يملك موقفًا نقديًا وفي سياقاتنا العربية، تبيّن أن المثقف كان يُنظر إليه على أنه صوتٌ يسعى لكشف الحقيقة، يدافع عن الضعيف، يتحدّى سلطة الجائر.
لكن ذلك المشهد لم يَخلُ من تغيُّر. فقد دخلنا زمنًا تتسارع فيه الأحداث، وتتم فيه إعادة ترتيب أولويات، وتتصاعد فيه قوى الاستقطاب فتُشغّل المثقف وتجعل منه طرفًا، أو تتغيّر مواقفه أو تتبدّل أدواره. ففي تحليلٍ من نوعٍ آخر، يُلاحظ أن المثقف في بعض المجتمعات العربية تغيّر إلى ما يُسمّى بالمثقف التكنوقراطي أو الوظائفي، الذي يقدّم خبرته أو رأيه الخاضع لمنطق السلطة، أكثر منه صوتاً معارضًا للنظام القائم.
ولأنّ الاستقطاب السياسي صار سمة محورية في الحياة العامة؛ حيث تصطف الأطراف وتتداعى الخطابات وتتعزّز المناطق الرمادية، فإن المثقف يقع في مفترق الطرق: هل يبقى مستقلّاً، أم يُستقطب؟ وهل يدرك أن التوظيف في خدمة السلطة أو الانحياز إليها يجعل منه ليس أكثر من بوقٍ لها؟ أو ربما يتحول إلى مجرد متفرّجٍ هادئ، أو ما أسماه البعض المثقّف المستقيل؟ وما يزيد الطين بلة أن الاستقطاب يُخنق حيز النقاش المستقلّ، ويُقوّض الحيز الذي يُفترض أن ينشط فيه المثقف بصوته الخاص، ويختبر فيه مسافة العودة إلى الضمير، أو الوقوع في فخِّ (بوق السلطة).
موقع اجتماعي
ومن ثم، فإن المثقف في زمن الاستقطاب يتساءل: هل يمكنه أن يكون صوت ضمير؟ للحديث عن هذا، لابد من المرور بعدّة حالات: الحالة الأولى عن موقعه الاجتماعي والثقافي، والحالة الثانية عن مواطن التوتر بينه وبين السلطة، والحالة الثالثة عن الأشكال التي تبدّل فيها دوره، وأخيرا عن البدائل الممكنة. ففي الحالة الأولى، فكريًا واجتماعيًا، يُشير أن المفكر إدوارد سعيد إلى أن المثقف لا يمكن أن يتخلص تمامًا من علاقته بالسلطة، لأنّ السلطة ليست فقط الخارجية بل أيضاً بنيةً فكرية وثقافية تتملك المجال العام، ويقول أيضلً: إن علاقة المثقف والسلطة هي علاقة (اشتباك)، لا هي علاقة مطلقة استقلال، ولا علاقة تطبيع مطلق. هذا الاشتباك ما فتئ حاضرًا، خصوصًا في المجتمعات التي تشهد تحولاتٍ أو حراكًا أو تغيرًا في بنى الدولة أو في مفهوم الحرية أو السيادة. علاوة على ذلك، يرى آخرون أن المثقف هو من يحاول أن ينفّذ العقل؛ بمعنى البحث عن الحلول والتقديم الرصين للأزمة، وليس فقط أن يخدم خطابًا معينًا. إذًا، فالموقع ليس مضمونًا مفروغًا منه، بل هو شبكة علاقات متشابكة بين المثقف والمجتمع والسلطة، وتحت رحى الاستقطاب، تصبح شبكة شائكة: المثقف يُطلب منه أن يَحسم، أو يُغطّي، أو يُحاكم أو يُختار جانبًا. وهذا بالذات ما يجعل السؤال: صوت ضمير أم بوق سلطة؟ ليس مجرّد تشفير لغوي، بل صدامًا ذاتيًا.
أما الحالة الثانية، تتعلّق بوقوع المثقف تحت ضغوط السلطة أو منظومة الاستقطاب، وتحولاته. ففي واقعنا العربي، ثمة حالات تُبيّن أن المثقف أصبح يتخذ وظيفةً ضمن منظومة السلطة الثقافية، أو يُضمّ إلى جهازها، أو يُوظّف ضمن أدوات خطابها. هذا الواقع ليس محض أمثلة فردية في عدة دول؛ بل هو مكثّف للتجربة التي تعيشها النخبة الثقافية في زمن تتبدّل فيه أسس الشرعية، وتنتقل السلطة أو تتوسّع دائرة نفوذها عبر أدوات غير تقليدية، منها الإعلام، ومن ثم الثقافة، ومن ثم القول العام.
في هذه البيئة، مثّل الانخراط في منظومة السلطة أو في خطابها خيارًا مغريًا: شهرة، نفوذًا، تأثيرًا، وضمانًا نسبيا للأمان الوظيفي. لكن ما تفقده تلك الوضعية هو الاستقلال، أو المسافة التي أنشأها المثقف للقول المختلف. وعندما يتحوّل المثقف إلى بوق للسلطة، فإن صوته لم يعد يعبر عن ضميرٍ يشقّ طريقه بين الصراعات، بل عن منطقٍ سلطوي يُسوّق خطابًا ويكرّسه. في هذا السياق، يصبح الاستقطاب ليس مجرد صراع سياسي، بل محورًا يستأثر بكل فضاء عام، ويحوّل المثقف إلى راوٍ أو إلى صانعٍ في تلك اللعبة.
أما الحالة الثالثة هي: كيف تبدّل دور المثقف؟ ولِمَ بات الأمر خادعًا؟ أولًا، تغيّرت أدوات الفعل الثقافي: لم تعد المعرفة محصورة في الجامعة أو في الكيان الثقافي المنظم، بل إنتشرت عبر وسائل التواصل، ومنصات رقمية، ومنصّات شبابية، ومن ثم تغيّرت طبيعة الجمهور والعلاقة بينه وبين المثقف. هذا التحول خلق نوعًا من التضخيم للدور، لكنه في نفس الوقت خلق إشكالية: كيف يمكن للمثقف أن يحافظ على عمقه حين يُطلب منه أن يصطف أو أن يُطرح كجزءٍ من الاستقطاب؟
أما القَطبية باتت أكثر وضوحًا: طرف مؤيد، وطرف معارض، وقليلٌ من المساحات الوسيطة. في مثل هذا المشهد، غالبًا ما يُطلب من المثقف أن يقف ضمن أحد الطرفين أو يُتهم بأنه خارج اللعبة. وهذا يضعه أمام خيارٍ إما أن يتحوّل إلى معلق مستقل أو أن يُصوّب رأيه ضمن أحد المحاور، وبالتالي يفقد ما كان يُفترض أن يكون عليه ضابط ضمير، ومن ناحية اخرى، هناك معادلة جديدة تمثّلها السلطة والمعارضات على حد سواء: الشراكة مع سلطة شرعية، أو المعارضة. في هذا السياق، بعض المثقفين قد تبنّوا مقولة أن وظيفة المثقف ليست بالضرورة أن يكون معارضاً، بل أن يكون جزءاً من الإصلاح؛ غير أنه عند حدود معينة يتحوّل إلى متعامل مع منظومة السلطة، وهذا التحوّل يسجّل ضمن مفارقة: المثقف الذي كان يفترض أن يكون سلطة موازية أصبح جزءاً منها أو تابعاً لها. ورداً على ذلك، يستشهد بعضهم بأن المثقف اليوم لا يمكنه أن يكون محايداً تمامًا، بل فقط أن يكون أقل انخراطًا في بوق السلطة.
ما يعنيه ذلك أن المثقف قد فقد، أو ربما أضعف، مقدار المساحة التي كان يُمارس فيها دوره الأصلي: كقارئ للواقع، وكاشف لآليات السلطة، وكناقد متحرّر من التبعيّة. وإذا صار دوره مجرد التجاوب مع طلبات السلطة أو الأدوار الموكولة إليه ضمن إطارها، فإنه لم يعد يمثّل ثغرة في المنظومة، بل أصبح جزءاً منها.
وأخيرًا، نصل الى البدائل الممكنة، أو لنقل: كيف يمكن للمثقف اليوم أن يستعيد صوته، وأن يعيد موقعه كضَمير وليس كبوق؟ أولاً، يستدعي الأمر وعيًا ذاتيًا، أي أن يراجع المثقف موقعه، علاقته بالسلطة، علاقته بالمجتمع، وعلاقته بنفسه كمثقف: هل هو يتبع، أم يتساءل؟ هل يتحدث باسم مشروعٍ أم يسائل المشاريع؟ هذا الأمر يقود إلى ضرورة استعادة المسافة النقدية، وهي ليست مسافة عداء، بل مسافة تمكّن من التفكير النقدي، وإلا صار النقد مجرد صوتٍ داخل النظام. ثانياً، أعاد البعض التأكيد على أن المثقف لا ينبغي أن ينتظر السلطة أو أن يكون منصّبًا أو موكولًا، بل أن يفتح فضاءات، أن يشغّل سؤالاً، أن يضع في صميم الحقل العام ما هو هامشي أو مهدور. مثّل هذا المنطق ما ورد في كثير من الكتابات التي تقول إن وظيفة المثقف ليست في أن يخدم السلطة أو أن يعاديها، بل أن يُفضي - عبر كتابته أو تحليله أو تفاعله - إلى أن يُخلي موقعه للنقاش. (من جانب آخر، ينبغي أن يفتّش المثقف عن الأصوات الهامشية والمشروعات التي لا تمثّل التيار السائد بالضرورة؛ لأن الاستقطاب غالبًا ما يصيغ التيار السائد ويُقصي الهامش. حينما يُمسك المثقف بهذا الهامش، فإنه يُعيد بناء الحقل النقدي، ويُفعّل مواضع الحيادية في ما تعنيه الكلمة: ليس انعدام الموقف، بل موقفاً لا يُستعبد بعدائه أو تأييده. ويمكن القول أيضاً، لا يمكن للمثقف أن يُعزل عن المجتمع، أو أن يستعبد الاتجاه التكنولوجي أو الإعلامي؛ بل عليه أن يفهم اللعبة القائمّة، أدواتها، خطابها، فيُفكّكها ولا يستسلم لها. أي أن الحقل الرقمي والاستقطابي ليس خيارًا خارجياً عليه، بل داخل سياق اشتغاله فتحليله ونقده يُعدّ جزءًا من دوره.
وبهذا، يمكن القول إن المثقف الذي يريد أن يبقى صوتَ ضميرَ لا بوقَ سلطة، لا يحتاج إلى أن يكون في معارضةٍ مستميتة، ولا في تبنٍّ أعمى، بل في وعيٍ بموقعه، في حرصٍ على مسافةٍ نقدية، في التزامٍ بشروط المعرفة والمساءلة، وفي قدرةٍ على التنقُّل بين الضدّين دون أن يفقد جوهره. وهذا الدور ليس سهلاً في زمن الاستقطاب، بل هو أكثر تجذرًا. لكنّه ليس مستحيلًا.
وعندما نعود إلى السؤال: هل المثقف في زمن الاستقطاب السياسي صوتٌ ضمير؟ أم بوقٌ سلطة؟ نجد أن الإجابة ليست قطعية. هي حالة حاملتها احتمالات. في لحظاتٍ يكون صوتاً ضميراً، وفي لحظاتٍ قد يتحول إلى بوقٍ، ليس بالضرورة عن طواعية، بل عن تموقع أو تسليم أو إدراك محدود. لكن المهم أنّه بإمكانه أن يُعيد اختيار موقعه، أو إعادة تأسيس دوره، إلا إن اختار أن يستكين إلى أن يصبح تابعًا. ففي نهاية المطاف، لا يُختبر المثقف فقط من خلال ما يقول، ولكن من خلال إلى أي مدى يبقى قابلًا للتجديد، ويفهم أن دوره ليس بالضرورة أن يكون مؤيدًا أو مُعارضًا، بل أن يكون صانعًا للوعي، وأن يُسائل كلّ من السلطة والمعارضة، وأن يُوقظ ضميره ومن ثم ضمير المجتمع معه.
قد يبقى سؤال الاستقطاب قائماً: في خضمّ الخطابات المتطرفة، وفي زمن تتعالى فيه الأصوات وتغيب فيه المساحات الوسطية، ما يزال هناك مجال للمثقف أن يُصنع الفارق؟ أعتقد أن الإجابة نعم، شرط أن يكون المثقف واعيًا بأن دوره ليس أن يُعلي صوته فحسب، بل أن يحافظ على ما بقي من فضيلته: أن يكون ضميرًا يقظاً، لا مجرد مكبّر صوتٍ بوقي.