الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
علي الحسيني.. شاعر آمن بالعراق ومضى


علي الحسيني.. شاعر آمن بالعراق ومضى

محمد علي محيي الدين

 

في خريطة الشعر العراقي، ثمة أسماء تمرّ كأضواء عابرة، وهناك من يترك أثره كالوشم في الذاكرة الثقافية، لا يمحوه الوقت ولا تطمسه النسيان. من هؤلاء، يبرز اسم الشاعر والباحث علي عبد الحسين الحسيني، الذي خرج من قرية الحُصين التابعة لمحافظة بابل، لكن صوته الشعري والمعرفي بلغ المدى، وعبر حدود المكان والزمان، ليظل علامة من علامات الإبداع الأصيل والالتزام الواعي بالكلمة.

ولد الحسيني عام 1938، في بيئة ريفية كانت تمور بوجدان شعبي خصب، وتشربت ذاكرته الأولى بماء الفرات ولهيب السياسة، فكان ابنًا لعراق يتململ تحت نير الملكية، ويتهيأ للانفجار الشعبي الذي سيتكرر في انتفاضات متعددة. ومنذ صباه، عرف معنى الانتماء والمواجهة، فانخرط في مظاهرات عامي 1948 و1956، مشاركًا في الحراك الوطني ضد الظلم والاستعمار، وفي قلبه كانت تنمو بذور القصيدة والموقف معًا.

بعد أن أكمل دراسته وتخرّج من دار المعلمين في بعقوبة، عمل الحسيني في التعليم الابتدائي بمدينة الحلة، حيث ظل يُعلّم الأجيال أبجدية الحياة والوطن، ويزرع فيهم روح المحبة والانفتاح على المعرفة. لم تكن مهنة التعليم عنده وظيفة، بل رسالة امتزجت فيها التربية بالشعر، والكتاب بالقصيدة، والموقف بالمثال. وعلى مقاعد الصف، كما على أعمدة الجرائد، كتب الحسيني بمداد القلب، فكان معلمًا بأكثر من معنى.

بدأ النشر مبكرًا، منذ عام 1955، في الصحف والمجلات العراقية والعربية الرفيعة، مثل الأديب، الرسالة، المورد، الأقلام، آفاق عربية، المعلم، وفي صحف الجمهورية، الثورة، العراق، القادسية وغيرها. وكان صوته واضحًا، وأسلوبه متزنًا، يكتب بلغة عذبة جزلة، متفردًا بقدرته على صوغ الفكرة الشعرية في قالب نقدي، وعلى تحويل المعرفة إلى جسر للتواصل مع القارئ.

لم يكن الحسيني شاعرًا تقليديًا، كما لم يكن من أولئك الذين انقطعوا عن جذورهم الرافدينية. لقد فهم مبكرًا أن الحداثة لا تُبنى من فراغ، وأن القصيدة الجديدة تحتاج إلى مرجعية معرفية، ولذلك جاءت قصيدته "أعراس تموز" لتكون شاهدًا على هذا التلاقي بين وعي التراث واستشراف المستقبل.

وقد كتب عنها الشاعر حميد سعيد، قائلًا في تقديمه لأعمال الحسيني: "لقد أفصحت هذه القصيدة عن شاعر مثقف، وعلى وعي بالتراث الرافديني القديم، عرف كيف يستلهمه مبكراً، في نص شعري معاصر...".

ويضيف في شهادته الوجدانية: "كان الشاعر الوحيد من بين كتّاب القصيدة الجديدة، الذي كنت ألتقيه بشخصه وأتحادث معه، ويستأثر باهتمامي."

هكذا كان الحسيني شاعرًا لا يكتب فقط، بل يحاور، ويناقش، ويشارك، ويتفاعل. لا ينعزل في برجٍ شعري، بل ينزل إلى الناس، يقرأ معهم ومنهم، ويرى في الكتابة جسرًا للتغيير والوعي، لا مجرد صنعة أو ترف.

لم يكن علي الحسيني شاعرًا فحسب، بل كان ناقدًا موسوعيًا، وباحثًا دؤوبًا، تتوزع اهتماماته بين الشعر والأدب والتراث واللغة. كتب في موضوعات دقيقة، من مصادر الأصفهاني في كتاب الأغاني، إلى سير أعلام مثل حيدر الحلي، إلى قضايا لغوية وأدبية وثقافية معاصرة، جمعتها مؤلفاته التي تجاوزت العشرين عنوانًا، من بينها: "أعراس تموز" (1958)، "الميلاد" (1960)، "سفر عبد الرحمن الداخل" (1980)، "آمنتُ بالعراق" (1986)، "لؤلؤة الجنوب" (1988)، "دفتر المحبة" (1998) وفي الأعوام الأخيرة، نشرت دار الفرات في بابل مجموعة من أعماله المخطوطة:

*"أمهات اللغة العربية، حيدر الحلي، أغنية حب سومرية، ملاحظات حول الشعر الحر، في الأدب المنسي، الملك البديل (مسرحية)، سنبلة الحنطة العجيبة (قصص أطفال)" وغيرها.

 وما يُلفت في نتاجه النقدي أنه لم يكن تقريريًا أو متعالياً، بل كان يتحرك بين القارئ والنص بروح المشارك، لا الحَكم. ينظر بعين المحب، ويحلل بعقل المدقق، ويكتب بلغة جمعت بين بلاغة القديم وسلاسة الحديث.

في عام 1959، أسس علي الحسيني اتحاد الأدباء في بابل، ليمنح المدينة صوتًا ثقافيًا فاعلًا، ويجعل من الأدب نشاطًا حيًا لا نخبويًا. ومن خلال هذا الاتحاد، فتح الأبواب أمام مواهب كثيرة، وشارك في عشرات المهرجانات الشعرية، داخل العراق وخارجه، وكانت له مكانته بين الأدباء، من مجايليه ومن الشباب.

وقد وصفه الأدباء الذين عاصروه بأنه "أديب غنيّ بعطائه، ممتع في أسلوبه، صادق في رأيه، رقيق في مشاعره."، وهي صفات نادرة في زمن تتنازع فيه المصالح، وتبهت فيه القيم.

حين رحل علي الحسيني عام 1991، كانت البلاد تعيش واحدة من أعقد لحظاتها، وكان رحيله خسارة مضاعفة: خسارة إنسان، وخسارة مثقف لم يُكمل مشروعه، وخسارة قلم كان يمكن أن يكتب كثيرًا بعد. لكن القدر اختطفه في أوج عطائه، وتركنا أمام إرثٍ يحتاج إلى من يعيد قراءته وتأمله.

وقد قام نجله الدكتور نصير الحسيني بجمع مقالاته ودراساته المتفرقة، ونشرها في كتاب قيّم، حفاظًا على هذا التراث من الضياع، وكي تبقى هذه النصوص منارةً للدارسين والقرّاء، تضيء جوانب من تاريخ الثقافة العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين.

إن علي الحسيني ليس مجرّد اسم من الماضي، بل هو صوت حاضر في القصيدة، وفي المقال، وفي الضمير الثقافي العراقي. عاش وكتب بشغف، ورحل بصمت . وفي زمن عزّ فيه الاتساق بين القول والفعل، كان هو النموذج الذي جمع بينهما.


مشاهدات 35
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/10/29 - 2:16 PM
آخر تحديث 2025/10/30 - 6:36 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 221 الشهر 20488 الكلي 12360342
الوقت الآن
الخميس 2025/10/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير