الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
كيف نولّد قطاعاً خاصاً من رحم المدرسة ؟

بواسطة azzaman

كيف نولّد قطاعاً خاصاً من رحم المدرسة ؟

أسامة أبو شعير

 

لم تعد مظاهرات الخريجين في العراق حدثًا موسميًا، بل مشهدًا يوميًا في الإعلام. آلاف الشباب، بينهم أطباء وصيادلة ومهندسون، يقفون بلا وظائف، فيما الدولة عاجزة أمام ترهّل الجهاز الوظيفي والبطالة المقنّعة. المفارقة أن السوق العراقي يعاني في الوقت ذاته من نقص حاد في فنيي الصيانة، والمهنيين المهرة، والمبرمجين، ومهندسي الطاقة. هذه الفجوة لا يمكن سدّها إلا إذا تحوّلت المدرسة نفسها إلى حاضنة لاقتصاد جديد.

الحل يبدأ من المدرسة. لا يكفي أن نضيف مادة عن “التربية المهنية”، بل يجب أن يعيش الطالب التجربة الاقتصادية منذ طفولته. يمكن لطلاب الابتدائية أن يديروا أسواقًا أسبوعية يبيعون فيها منتجات صنعوها بأيديهم، فيتعلّمون إدارة المال والتسعير والربح والخسارة. تجربة سنغافورة في تحويل المدارس إلى منصات للمشاريع الصغيرة أثبتت أن التعليم حين يلمس السوق يتحول إلى قوة إنتاجية. العراق قادر على تبني هذا النموذج وتكييفه مع بيئته المحلية.

انظمة بسيطة

المشكلات الكبرى – من ندرة المياه إلى التلوث والتصحر – ليست بعيدة عن عقل الطالب. يمكن لتلاميذ الابتدائية أن يصمموا أنظمة بسيطة لجمع مياه الأمطار، ولطلاب المتوسطة أن يبتكروا فلاتر لتنقية المياه، ولطلاب الثانوية أن يقودوا مشروعات لإعادة التدوير أو إنتاج الطاقة الشمسية. في كوريا الجنوبية، كانت مثل هذه التجارب المدرسية بذرة لصناعة تكنولوجية عملاقة.

مهارت تشغيل

العراق يخرّج جيوشًا من الأطباء والصيادلة العاطلين، بينما السوق يفتقر إلى مهارات تشغيل وصيانة. الإمارات أنشأت مدارس تقنية ترفد سوقها بكفاءات وتفتح أبواب الابتكار. العراق يحتاج مقاربة مشابهة: نجارة مدعومة بالتصميم ثلاثي الأبعاد، كهرباء مرتبطة بالطاقة الشمسية، وحِرَف تؤسس لمشاريع خاصة. التكنولوجيا يمكن أن تكون رافعة أساسية. المختبرات الافتراضية والذكاء الاصطناعي يفتحان المجال لتجارب غير مسبوقة. طلاب الموصل قد يحاكون عبر الواقع الافتراضي مدينة صديقة للبيئة، وطلاب البصرة قد يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات ملوحة المياه. هذه ليست تدريبات أكاديمية، بل مساهمات مبكرة في قضايا وطنية. لكن المدرسة وحدها لا تكفي. لا بد من ربطها بالسوق. كل مدرسة يمكن أن تتبنى شراكة مع مؤسسة محلية توفّر التدريب وتستفيد من طاقات الطلبة. السعودية ضمن “رؤية 2030” ربطت مدارسها بالشركات الناشئة، فدخل الطالب إلى الجامعة وهو جزء من مشروع اقتصادي. والعراق قادر على إطلاق نموذج مشابه، حيث تتحول المدرسة إلى حاضنة أعمال مرتبطة بسوقها المحلي..

التحول يحتاج خطة تدريجية. في السنة الأولى تُختار عشر مدارس نموذجية في كل محافظة لتجريب المناهج الجديدة. في السنة الثانية تُقاس النتائج عبر عدد المشاريع الطلابية التي خرجت للسوق، نسبة الطلبة الملتحقين بتدريب عملي، وعدد الشركات المشاركة. في السنة الثالثة يُوسع النموذج ليشمل نصف المدارس الثانوية، وبعد خمس سنوات يمكن تعميمه وطنيًا. التمويل يمكن أن يأتي من شراكات مع القطاع الخاص وصناديق التنمية الدولية. الأرقام تكشف الأزمة بوضوح. فبحسب وزارة التخطيط العراقية (2023) تتجاوز بطالة الشباب 30بالمئة، بينما يشير تقرير الأمم المتحدة للعراق (2023) إلى أن النسبة قد تصل إلى 35–36بالمئة بين الفئة العمرية 15–24 عامًا. أما مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي فقد قُدّرت بنحو 37بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لتقديرات Atlantic Council (2018)، وهي نسبة متواضعة مقارنة بجيران العراق حيث يتجاوز نصيب القطاع الخاص 60بالمئة في السعودية و70بالمئة في الإمارات (بيانات البنك الدولي 2022). كذلك، ما زال أكثر من 40بالمئة من القوى العاملة العراقية متركزًا في القطاع العام (وزارة التخطيط 2023).

التجارب العربية تقدم شواهد إضافية. ففي الأردن، على سبيل المثال، لعبت مؤسسة التدريب المهني منذ السبعينيات دورًا محوريًا في ربط التعليم بسوق العمل، وأنتجت مئات الآلاف من الفنيين الذين رفدوا سوق العمل المحلي والخليجي. هذه التجربة، رغم تحدياتها، تظهر أن الإصلاح ممكن في بيئات عربية قريبة من العراق ثقافيًا ومؤسسيًا.

غير أن الطريق محفوف بتحديات:

التمويل: تحديث المناهج والمختبرات يحتاج موارد، والحل في شراكات مع القطاع الخاص والمانحين.

البيروقراطية: مقاومة التغيير متوقعة، والحل في تشريعات داعمة وحوكمة واضحة.

الثقافة المجتمعية: ما زالت الأسر العراقية تفضّل الوظيفة الحكومية باعتبارها أكثر أمانًا. هنا يجب أن تلعب الحملات الإعلامية، وقصص نجاح رواد الأعمال الشباب، دورًا في تغيير هذه العقلية.

المعلم: هو حجر الزاوية. يحتاج إلى تدريب على دور جديد: من “ناقل للمعلومة” إلى “موجّه للمشاريع”.

القيمة الكبرى أن الطالب لن ينتظر الجامعة ليبدأ مشروعه. من جرّب إدارة ميزانية صغيرة، ومن صمم حلًا بيئيًا، ومن أدار متجرًا إلكترونيًا مدرسيًا، سيكون جاهزًا لبناء مشروع فور إنهاء الثانوية. قطر طبّقت هذه الفكرة عبر برامج لريادة الأعمال في مدارسها الثانوية، فتحول كثير من خريجيها إلى أصحاب شركات ناشئة.

تنويع الاقتصاد

اليوم، دول المنطقة تحقق طفرات عبر تنويع اقتصاداتها، بينما يظل العراق حبيس اقتصاد ريعي. المدرسة ليست محطة انتظار نحو الوظيفة الحكومية، بل رحم يولد منه القطاع الخاص. إذا تحوّلت الصفوف إلى ورش، والمناهج إلى مشاريع، والطلاب إلى صانعي حلول، فإن العراق قادر على الخروج من أسر البطالة إلى فضاء التنمية الحقيقية. السؤال لم يعد: هل يمكن؟ بل: متى نبدأ؟

اقتصادي ومستشار دولي في التعليم والتنمية


مشاهدات 59
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/09/26 - 5:53 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 7:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 177 الشهر 19414 الكلي 12037287
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير