البرامج الانتخابية بين الواقع العراقي ونسخ القوالب الجاهزة
العلاء صلاح عادل
مع اقتراب كل دورة انتخابية في العراق، تعود المشاهد المألوفة إلى الواجهة: لافتات ضخمة تملأ الشوارع، صور المرشحين تزيّن المباني والجسور، وشعارات رنانة تَعِدُ بالتغيير والإصلاح والتنمية. لكن خلف هذه الشعارات تختبئ ما يسمى بالبرامج الانتخابية، وهي الوثائق التي يُفترض أن تقدّم رؤية الأحزاب والكتل السياسية لإدارة الدولة والنهوض بواقعها المتعثر. في المفهوم السياسي الحديث، البرنامج الانتخابي ليس مجرد ورقة بروتوكولية، بل خارطة طريق متكاملة تعكس وعي الحزب بالواقع المحلي وتشخّص احتياجات المواطن، لتضع حلولاً عملية قابلة للتنفيذ ضمن سقوف زمنية واضحة. غير أن ما يُطرح في العراق يبدو بعيدًا جدًا عن هذا المفهوم، إذ يلاحظ المراقب أن أغلب هذه البرامج أقرب إلى نسخ جاهزة أو شعارات مستوردة لا علاقة لها بالخصوصية العراقية. وبحسب تقديرات خبراء ومتابعين للشأن الانتخابي، فإن أكثر من تسعين بالمئة من البرامج الانتخابية في العراق لا تعدو كونها استنساخًا مشوهًا من برامج أحزاب عربية وأجنبية، جرى "تعريبها" أو تعديل بعض عباراتها لتبدو متناسبة مع الخطاب المحلي، بينما صيغ بعضها الآخر في السنوات الأخيرة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي"، من دون أي مراجعة بشرية جادة أو محاولة لربط الأفكار بالمشكلات اليومية التي يواجهها المواطن العراقي.
المشكلة لا تكمن في الاقتباس بحد ذاته، بل في غياب الانسجام بين هذه البرامج وبين الواقع العراقي المليء بالتحديات. فكيف يمكن لمواطن يعاني منذ عقدين من أزمة كهرباء متكررة، وانقطاع مياه الشرب، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، أن يصدق وعودًا عن "تحويل العراق إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا الخضراء" أو "قيادة الشرق الأوسط في الصناعات الفضائية"؟ هذه الوعود لا تثير حماسة الناخب بقدر ما تثير ابتسامته الممزوجة بالمرارة، إذ يقرأها وهو يصطدم يوميًا بأزمة خدمية أو اقتصادية أو أمنية لم تُحل منذ سنوات. وفي الوقت الذي تُعتبر فيه البرامج الانتخابية في الديمقراطيات الراسخة حجر الزاوية في المنافسة السياسية، حيث يتنافس المرشحون على تقديم خطط أكثر واقعية وملامسة لاحتياجات الناخبين، نجدها في العراق قد تحولت إلى واجهة تجميلية أو "بروشور انتخابي" يُستخدم لاستعراض مفردات براقة أمام الإعلام والجماهير من دون نية حقيقية أو قدرة فعلية على التطبيق، وهو ما جعل الناخب العراقي ينظر إليها بعين الشك واللامبالاة، مدركًا أنها لا تتجاوز حدود الورق.
لقد بات المواطن العراقي بعد تجارب انتخابية متعاقبة لا يبحث عن شعارات كبيرة أو رؤى حالمة مستوردة من الخارج، بل يتطلع إلى أبسط مقومات الحياة التي حُرم منها طويلاً: وظيفة تحفظ كرامته، كهرباء وماء وخدمات صحية وتعليمية مستقرة، عدالة اجتماعية تضمن المساواة، وأمن يطمئن به إلى مستقبل أبنائه. إن إدراك هذا الواقع هو الخطوة الأولى نحو صياغة برامج انتخابية جادة وفاعلة، تنطلق من هموم الشارع وتقدم حلولاً عملية، بدل الاكتفاء بترديد مصطلحات فضفاضة مثل "الإصلاح الاقتصادي الشامل" أو "إعادة هيكلة مؤسسات الدولة" من دون خطة واضحة أو موارد محددة أو جدول زمني للتنفيذ. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: متى تدرك الأحزاب السياسية أن المواطن العراقي لم يعد يثق بالبرامج المستنسخة، وأن التغيير الحقيقي لا يكمن في إعادة إنتاج القوالب الجاهزة، بل في تقديم برامج واقعية نابعة من فهم عميق للتحديات البنيوية في الاقتصاد والمجتمع والدولة؟ قد يكون الجواب صعبًا، لكن المؤكد أن أي حزب يسعى جديًا للاقتراب من الشارع العراقي عليه أن يبدأ من البسيط قبل المعقد، ومن الممكن قبل المستحيل، فالناخب يريد حلولًا ملموسة تلمس يومياته: كهرباء لا تنقطع، ماء صالح للشرب، مدارس مؤهلة، مستشفيات مجهزة، فرص عمل للشباب، ومكافحة فعلية للفساد الذي ينهش جسد الدولة. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى البرامج الانتخابية في العراق أقرب إلى شعارات معلقة على الجدران، سرعان ما تتساقط مع أول مطر انتخابي تاركة خلفها إحباطًا جديدًا يضاف إلى رصيد خيبات الناخبين.