الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بلاغة

بواسطة azzaman

بلاغة

حسن‭ ‬النواب

 

اخترتُ‭ ‬لكم‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬البليغة‭ ‬من‭ ‬خزائن‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭.‬

خرج‭ ‬الحجَّاج‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬للصيّد؛‭ ‬فرأى‭ ‬تسعة‭ ‬كلاب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬صبي‭ ‬صغير‭ ‬ولهُ‭ ‬أغنام،‭ ‬فسألهُ‭ ‬الحجَّاج‭: ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬هنا‭ ‬أيها‭ ‬الغلام؟‭ ‬رفعَ‭ ‬الصبي‭ ‬طرفه‭ ‬إليه‭ ‬وأجاب‭ ‬بشجاعة‭: ‬يا‭ ‬حامل‭ ‬الأخبار؛‭ ‬لقد‭ ‬نظرت‭ ‬إليَّ‭ ‬بعين‭ ‬الاحتقار‭ ‬وكلمتني‭ ‬بالافتخار‭ ‬وكلامك‭ ‬كلام‭ ‬جبار‭ ‬وعقلك‭ ‬عقل‭ ‬بغال‭. ‬امتعض‭ ‬الحجَّاج‭ ‬متسائلاً‭: ‬أما‭ ‬عرفتني؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬عرفتك‭ ‬بسواد‭ ‬وجهك؛‭ ‬لأنك‭ ‬أتيت‭ ‬بالكلام‭ ‬قبل‭ ‬السلام‭. ‬غضب‭ ‬الحجَّاج‭ ‬قائلاً‭: ‬ويحك‭ ‬أنا‭ ‬الحجَّاج‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭. ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬لا‭ ‬قرّب‭ ‬الله‭ ‬دارك‭ ‬ولا‭ ‬مزارك‭ ‬فما‭ ‬أكثر‭ ‬كلامك‭ ‬وأقل‭ ‬إكرامك‭. ‬فما‭ ‬أتمَّ‭ ‬كلامه‭ ‬إلاَّ‭ ‬والجيوش‭ ‬حلّقت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب؛‭ ‬فأمرهم‭ ‬الحجَّاج‭ ‬أنْ‭ ‬يحملوه‭ ‬إلى‭ ‬قصره؛‭ ‬فجلس‭ ‬في‭ ‬مجلسه‭ ‬والناس‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬هيبته‭ ‬مطرقون‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬إحضار‭ ‬الغلام،‭ ‬فلما‭ ‬مثل‭ ‬بين‭ ‬يديه؛‭ ‬رفع‭ ‬الغلام‭ ‬رأسه‭ ‬وجال‭ ‬بنظره‭ ‬بناء‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مزينًا‭ ‬بالنقوش‭ ‬والفسيفساء‭. ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬أتبنون‭ ‬بكل‭ ‬ريع‭ ‬آية‭ ‬تعبثون؛‭ ‬وتتخذون‭ ‬مصانع‭ ‬لعلكم‭ ‬تخلدون؛‭ ‬وإذا‭ ‬بطشتم‭ ‬فلا‭ ‬ترحمون‭. ‬فاستوى‭ ‬الحجَّاج‭ ‬جالساً‭ ‬وكان‭ ‬متكئاً‭ ‬وسأل‭ ‬الغلام‭: ‬هل‭ ‬حفظت‭ ‬القرآن؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬هل‭ ‬القرآن‭ ‬هارب‭ ‬مني‭ ‬حتى‭ ‬أحفظه‭. ‬فسأله‭ ‬الحجَّاج‭: ‬هل‭ ‬جمعت‭ ‬القرآن؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬متفرق‭ ‬حتى‭ ‬أجمعه؟‭ ‬تساءل‭ ‬الحجَّاج‭ ‬جزعاً‭: ‬أما‭ ‬فهمت‭ ‬سؤالي؟‭ ‬فأجابه‭ ‬الغلام‭: ‬ينبغي‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬هل‭ ‬قرأت‭ ‬القرآن‭ ‬وفهمت‭ ‬ما‭ ‬فيه‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عمّن‭ ‬خُلِقَ‭ ‬من‭ ‬الهواء؟‭ ‬ومن‭ ‬حُفِظَ‭ ‬بالهواء؟‭ ‬ومن‭ ‬هَلِكَ‭ ‬بالهواء؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬الذي‭ ‬خُلِقَ‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬سيدنا‭ ‬عيسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬والذي‭ ‬حُفِظ‭ ‬َبالهواء‭ ‬سيدنا‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬داود‭ ‬عليهما‭ ‬السلام،‭ ‬وأما‭ ‬الذي‭ ‬هَلَكَ‭ ‬بالهواء‭ ‬فهم‭ ‬قوم‭ ‬هود‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عمَّنْ‭ ‬خُلِقَ‭ ‬من‭ ‬الخشب؟‭ ‬والذي‭ ‬حُفظ‭ ‬بالخشب؟‭ ‬والذي‭ ‬هلك‭ ‬بالخشب؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬الذي‭ ‬خُلِقَ‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬هي‭ ‬الحيَّة‭ ‬خُلِقت‭ ‬من‭ ‬عصا‭ ‬موسى،‭ ‬والذي‭ ‬حفظ‭ ‬بالخشب‭ ‬نوح‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬والذي‭ ‬هلك‭ ‬بالخشب‭ ‬زكريا‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عمَّنْ‭ ‬خُلق‭ ‬من‭ ‬الماء؟‭ ‬ومن‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الماء؟‭ ‬ومن‭ ‬هلك‭ ‬بالماء؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬الذي‭ ‬خُلق‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬فهو‭ ‬أبونا‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬والذي‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬والذي‭ ‬هلك‭ ‬بالماء‭ ‬فرعون‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عمَّنْ‭ ‬خُلق‭ ‬من‭ ‬النار؟‭ ‬ومن‭ ‬حُفظ‭ ‬من‭ ‬النار؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬الذي‭ ‬خُلق‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬إبليس،‭ ‬والذي‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عن‭ ‬العقل،‭ ‬والإيمان،‭ ‬والحياء،‭ ‬والسخاء،‭ ‬والشجاعة،‭ ‬والكرم،‭ ‬والشهوة؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬إنَّ‭ ‬الله‭ ‬قسَّمَ‭ ‬العقل‭ ‬عشرة‭ ‬أقسام؛‭ ‬جعل‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬الرجال‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬النساء‭. ‬والإيمان‭ ‬عشرة،‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬الدنيا،‭ ‬والحياء‭ ‬عشرة،‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬النساء‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬الرجال،‭ ‬والسخاء‭ ‬عشرة،‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬الرجال‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬النساء،‭ ‬والشجاعة‭ ‬والكرم‭ ‬عشرة،‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬العرب‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬العالم،‭ ‬والشهوة‭ ‬عشرة‭ ‬أقسام،‭ ‬تسعة‭ ‬في‭ ‬النساء‭ ‬وواحداً‭ ‬في‭ ‬الرجال‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عن‭ ‬أقرب‭ ‬شيء‭ ‬إليك؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬الآخرة‭. ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬سبحان‭ ‬الله‭ ‬يأتي‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬عباده؛‭ ‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬صبياً‭ ‬أتاهُ‭ ‬الله‭ ‬العلم‭ ‬والعقل‭ ‬والذكاء‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الغلام‭. ‬ثم‭ ‬سألهُ‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أخبرني‭ ‬عن‭ ‬النساء؟‭ ‬فقال‭ ‬الغلام‭: ‬أتسألني‭ ‬عن‭ ‬النساء‭ ‬وأنا‭ ‬صغير‭ ‬لم‭ ‬أطـّلع‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬أحوالهن‭ ‬ورغائبهن‭ ‬ومعاشرتهن،‭ ‬ولكني‭ ‬سأذكر‭ ‬لك‭ ‬المشهور‭ ‬من‭ ‬أمورهن،‭ ‬فبنت‭ ‬العشر‭ ‬سنين‭ ‬من‭ ‬الحور‭ ‬العين،‭ ‬وبنت‭ ‬العشرين‭ ‬نزهة‭ ‬للناظرين،‭ ‬وبنت‭ ‬الثلاثين‭ ‬جنَّة‭ ‬نعيم،‭ ‬وبنت‭ ‬الأربعين‭ ‬شحم‭ ‬ولين،‭ ‬وبنت‭ ‬الخمسين‭ ‬بنات‭ ‬وبنين،‭ ‬وبنت‭ ‬الستين‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬فائدة‭ ‬للسائلين‭. ‬فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬أحسنت‭ ‬يا‭ ‬غلام‭ ‬وأجملت‭ ‬وقد‭ ‬غمرتنا‭ ‬ببحر‭ ‬علمك،‭ ‬فوجب‭ ‬علينا‭ ‬إكرامك؛‭ ‬ثم‭ ‬أمر‭ ‬له‭ ‬بألف‭ ‬دينار‭ ‬وكسوة‭ ‬حسنة‭ ‬وجارية‭ ‬وسيف‭ ‬وفرس‭. ‬بالوقت‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬الحجَّاج‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬إنْ‭ ‬أخذ‭ ‬الفرس‭ ‬نجا،‭ ‬وإن‭ ‬أخذ‭ ‬غيرها‭ ‬قتلته‭. ‬فلما‭ ‬قدمها‭ ‬له؛‭ ‬قال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬خذ‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬يا‭ ‬غلام‭. ‬فأجاب‭ ‬الغلام‭: ‬إنْ‭ ‬كنتَ‭ ‬تخيِّرني‭ ‬فإنني‭ ‬أختار‭ ‬الفرس،‭ ‬أمَّا‭ ‬إنْ‭ ‬كنت‭ ‬ابن‭ ‬حلال‭ ‬فتعطيني‭ ‬الجميع‭.‬

فقال‭ ‬الحجَّاج‭: ‬خذهم‭ ‬لا‭ ‬بارك‭ ‬الله‭ ‬لك‭ ‬فيهم‭.‬

فقال‭ ‬الغلام‭: ‬قبلتهم؛‭ ‬لا‭ ‬أخلف‭ ‬الله‭ ‬عليك‭ ‬غيرهم،‭ ‬ولا‭ ‬جمعني‭ ‬بك‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

وخرج‭ ‬الغلام‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الحجَّاج‭ ‬سالماً‭ ‬غانماً‭ ‬أمام‭ ‬ذهول‭ ‬الحاضرين‭.  ‬

 


مشاهدات 69
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2025/09/15 - 1:50 PM
آخر تحديث 2025/09/16 - 4:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 177 الشهر 10977 الكلي 12028850
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/9/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير