الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العطلة في عقلنا الجمعي

بواسطة azzaman

العطلة في عقلنا الجمعي

فاروق الدباغ

 

في بعض الأحيان، يبدو أن العراق بلد يحتفل أكثر مما يعمل. لا لأن العراقيين لا يحبون العمل، بل لأن سلطة القرار وجدت أن أسهل وصفة لامتصاص الغضب أو لإظهار الولاء هي تعطيل الدوام الرسمي. فكلما جاءت مناسبة دينية أو سياسية أو حتى موجة حر أو برد، تخرج المحافظات بقرار عاجل: “عطلة عامة”. وهكذا، تتحوّل العطلة من استثناء إلى قاعدة، ومن وسيلة للراحة إلى أداة للفوضى.

أما الفلسفة التي يمكن أن نراها خلف هذا المشهد فهي أقرب إلى العبث الوجودي: شعب يملك الوقت لكنه لا يملك الإنتاج، يملك المناسبات لكنه يفتقد النظام. في بلدٍ تتكدس فيه المشكلات، يصبح تعطيل الحياة اليومية أسلوب حكم، لا مجرد إجراء إداري. الأرقام هنا تتحدث عن نفسها؛ فالعراق يتجاوز سنويًا 120 إلى 140 يوم عطلة بين دينية ووطنية وطارئة، وكل يوم عطلة يُقدَّر بأنه يكلّف الاقتصاد العراقي ما يقارب 170 مليون دولار خسائر مباشرة في الإنتاج والخدمات. بالمقارنة، السويدالتي تصل فيها الحرارة شتاءً إلى 35 درجة مئوية تحت الصفرلا تتجاوز أيام العطل الرسمية 12 يومًا في السنة فقط. والعراق، بتعداد سكاني يقارب 44 مليون نسمة، يعطّل عمل مؤسساته أكثر من عشر مرات مما تفعل السويد ذات العشرة ملايين نسمة، بينما الناتج المحلي الإجمالي للعراق يتأرجح حول 265 مليار دولار، في حين تنتج السويد الصغيرة أكثر من 620 مليار دولار. الفارق هنا لا يفسّره النفط ولا الجغرافيا ولا حتى الظروف السياسية وحدها، بل ثقافة العطلة مقابل ثقافة العمل.

الفوضى في قرارات العطل ليست مجرد أرقام اقتصادية، بل تخلق اضطرابًا اجتماعيًا، فالطالب لا يعرف إن كان غدًا مدرسة أم عطلة، والعامل يتوقف فجأة عن إنتاجيته، والمؤسسات تتعطل ثم تعود مرتبكة، ما يضعف ثقة المواطن بالدولة ويُشعره بأنه يعيش في نظام غير منضبط. أما في السويد، فإن الانضباط في مواعيد العملرغم الظروف القاسيةيعزز ثقافة المسؤولية الفردية والجماعية، حيث يدرك المواطن أن بقاء عجلة الحياة تدور هو ما يضمن رفاهيته وأمنه الاجتماعي.

وفي المقارنة الفلسفية الساخرة، يكفي في العراق أن تهطل قطرة مطر أو ترتفع الحرارة إلى 45 مئوية ليعلن المحافظعطلة، بينما في السويد يخرج الطفل في السادسة صباحًا والثلج يغطي الأرض بارتفاع نصف متر، ليحمل حقيبته ويمضي إلى مدرسته، غير آبه أن الحرارة -30. الفارق ليس في الطقس، بل في العقل الجمعي الذي ينظم العلاقة بين الدولة والمواطن.

العطلة في أصلها نعمة، لكن حين تتحول إلى فوضى قرار تصبح نقمة على الاقتصاد والمجتمع. ولعلّ المقارنة بين العراق والسويد تضعنا أمام سؤال فلسفي–وجودي ساخر: هل نحن أمة تحب الراحة أكثر مما تحب العمل، أم أننا وجدنا فيالعطلةوسيلة للهروب من مواجهة فوضى أكبر؟ في النهاية، يبقى الأمل أن يدرك صانع القرار العراقي أن النهوض لا يتحقق بتكديس المناسبات، بل بجدية العمل، وأن الشعوب لا تُقاس بعدد أيام عطلتها، بل بقدرتها على تحويل ساعات العمل إلى حياة أفضل.

 

 


مشاهدات 42
الكاتب فاروق الدباغ
أضيف 2025/09/05 - 10:39 PM
آخر تحديث 2025/09/06 - 12:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 54 الشهر 3766 الكلي 11421639
الوقت الآن
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير