المدرسة الدبلوماسية العراقية
نواف شاذل طاقة
تأسس المعهد الدبلوماسي الذي عرف لاحقا باسم “معهد الخدمة الخارجية” في وزارة الخارجية العراقية مطلع سبعينيات القرن الماضي حين شرع العراق بمساع لبناء مدرسة دبلوماسية معاصرة وفق المعايير العالمية، تجيد اللغات الأجنبية والمهارات الدبلوماسية، وتتمتع بدراية كافية بأسس العلاقات الدولية والشؤون الاقتصادية. وقد استعان المعهد منذ تأسيسه بأفضل الخبرات الوطنية، فتعاقب على تدريس طلبته خيرة اساتذة الجامعات في العراق. ومن بين كبار هؤلاء الأساتذة، أخبرني الاستاذ الدكتور عبد الواحد لؤلؤة أن والدي، الذي كان يشغل منصب وكيل وزارة الخارجية خلال الفترة 1971-1972، طلب منه تدريس الدبلوماسيين العراقيين اللغة الانكليزية في ذلك المعهد الفتي، وأنه وافق على طلبه للتدريس خلال فصل دراسي واحد فقط بسبب الصداقة التي جمعتهما. والمعروف أن الاستاذ لؤلؤة هو واحد من قلة من العراقيين يعدون على أصابع اليد ممن حصلوا على شهادتهم العليا من جامعة هارفرد الأمريكية العريقة. واصل المعهد الدبلوماسي مسيرته بخطى ثابتة وترأس المعهد اساتذة من حملة الشهادات العليا، والقى خيرة اساتذة العراق في اللغات الأجنبية واللغة العربية والعلاقات الدولية والاقتصاد والمهارات الدبلوماسية محاضرات على طلبة المعهد. لم يكن مسموحاً لأي موظف أن يصبح دبلوماسياً من دون الحصول على شهادة المعهد التأهيلية شريطة أن يكون حاصلا على شهادة جامعية أولية في تخصص ذي صلة، حيث يتفرغ الطلبة لمدة عامين متواصلين للدراسة ويخضعون لامتحانات شاقة، لحين حصولهم على التأهيل المطلوب. نُقلتُ من نيودلهي إلى بغداد أواخر عام 1984، والتحقت بالمعهد الدبلوماسي في دورته رقم (12) مطلع عام 1985. كنا على ما أذكر نحو 15 طالباً وطالبة، من موظفي الوزارة، وكان عميد المعهد السفير الدكتور موسى السوداني (رحمه الله) الحاصل على شهادة الدكتوراه من فرنسا. أشرف على تدريسنا خيرة اساتذة جامعة بغداد، واذكر من بين أساتذتنا في المعهد الدكتور حميد الجميلي، استاذ الاقتصاد في جامعة بغداد، خريج جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية، وفي اللغة العربية وسواها من التخصصات، أشرف على تدريسنا أساتذة أكفاء كالدكتور طالب الزوبعي والدكتور اكرم عثمان والأستاذ عزيز الدفاعي، وكانت دوائر الدولة العليا تستعين بخبرات معظم هؤلاء الأساتذة. وفي المهارات الدبلوماسية والاتكيت تتلمذنا على يد رئيس دائرة المراسم في الوزارة، السفير المخضرم الدكتور فؤاد الراوي (رحمه الله) فخضع الطلبة إلى دروس عملية شملت اتكيت تناول الطعام في المآدب الرسمية، وترتيب جلوس الضيوف على موائد الدعوات الرسمية. وفي العام الدراسي الثاني، كنا مطالبين بتعلم المهارات الوظيفية فتنقلنا بين دوائر الوزارة المختلفة، فبدأنا بقسم (الأوراق)، المعروف بالواردة والصادرة، كي نفهم كيف تبدأ المخاطبات التي ترد الوزارة وتخرج منها. أذكر أيضاً أن استاذاً من معهد الادارة في بغداد أشرف على تدريسنا الطباعة بعشرة أصابع من دون النظر إلى لوحة الطباعة، وهي الطريقة المعروفة باسم “الطباعة العمياء”، وقد تأخر تخرج بعض الطلبة في المعهد وتأجل نقلهم الى السفارات لحين اجتيازهم امتحان الطباعة. وفي اللغات الأجنبية التي احتلت حيزا أوسع من سواه في برنامج التدريس، كنت من بين 4-5 طلبة لم يخضعوا لدروس اللغة الانكليزية لأننا اجتزنا قبل دخولنا المعهد امتحانات اللغة الانكليزية وحصلنا على معدلات أكثر من 80 بالمائة، وتلقينا عوضا عن ذلك دروسا باللغة الفرنسية على يد استاذ فرنسي شاب. تخرجت في المعهد الدبلوماسي مطلع عام 1987، وتخلف طالب واحد عن التخرج لفشله في الامتحانات النهائية، ولم يتأهل للعمل في السلك الدبلوماسي إلاّ بعد مضي نحو عامين. تدرج المتخرجون في دورتنا في وظائفهم الدبلوماسية وتبوأوا مواقع دبلوماسية رفيعة، وترأس بعضهم بعثات دبلوماسية هامة خارج البلاد، لكني لا أتذكر أن احدا من دورتنا اصبح سفيراً حتى تاريخ تركي العمل أواخر عام 2003 بعد خدمة دامت 23 عاما. المفارقة الطريفة هي أن الزميل الوحيد من خريجي دورتنا الذي أصبح سفيرا بعد احتلال العراق كان ذلك الطالب نفسه الذي فشل في دورة المعهد الدبلوماسي لمدة عامين، بعدما انضم إلى الأحزاب التي حكمت العراق بعد احتلاله. لكن الأدهى من كل ذلك، هو أن أول عميد للمعهد الدبلوماسي بعد احتلال البلاد عام 2003 تلخصت مهاراته وخبرته الوظيفية بالعمل كنادل في مطعم (شاورمة) شعبي في الحي اللاتيني بباريس!!