الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حب وحرب

بواسطة azzaman

حب وحرب

حسن النواب

 

في غمرة معارك الحرب العنيفة مع الجارة إيران؛ كنتُ أُفتِّشُ عن مبرر واحد يدعني أبقى على قيد الحياة. ذلك أنَّ اليقين الذي تلبَّسني مفادهُ: لا موت لمن لهُ علاقة مع الحياة؛ والحياة التي أعنيها أمَّا قصيدة أو عاشقة، ولما كنت حينها أتمرَّن على كتابة الشعر ومازلت حتى الآن؛ وجدتُ أنَّ أعظم قوة تربطني بالحياة هي عشقي إلى امرأة. شاءت المصادفات أنَّ عائلة بصرية طيبة تصل إلى مدينتي كربلاء هرباً من القصف الذي غدت قنابله تتساقط حتى في غرف النوم. وكنت حينها في إجازة من كتيبة دبابات أشبيلية، وقد عدتُ ليلا من سهرة عاصفة مع أصدقائي عند ضفاف بحيرة الرزازة. لمَّا دخلت المنزل لفت نظري فتاة كانت بشرتها بلون الكاكاو؛ صوتها حين سمعتهُ؛ شعرتُ أنَّ موسيقى الله تعزف بروحي.. جلست على أريكة أتفرج مع العائلة على التلفاز، وكانت نشرة الأخبار تعرض مشاهد للقصف على بيوت البصرة حتى سمعت بكاء تلك الفتاة؛ خمشني قلبي لألتفت إليها قائلاً:

- صحيح أنَّ كربلاء موطن الدموع؛ لكنَّ عبراتك تكاد تُغرقُ أرضها.

ظلَّت صامتة واشتعل دمي لها؛ نهضتُ، ربما لا يعرف الكثير أنَّ خجلي أكثر من حياء عروس أمام الناس الرائعين؛ ويكون بشراسة أسدٍ أمام الظالمين.

تركتُ المكان لأنزوي بغرفة صغيرة استمع إلى أغنية فؤاد سالم وتسافرين، الذي كان ممنوعاً من تداول أغانيه في ذلك الوقت؛ فيما تحوَّلت عبراتها إلى موقد جمر في وجداني وأنا أكرع كؤوس ابنة الكروم بلا هوادة، والفتاة البصرية استحوذتْ على عرش رأسي بمخيلتي.

حاولت الخروج إلى « الهول» لاستطلاع وجهها الذي يشبه ثمرة الكستناء؛ إذْ مازالت تجلسُ مع العائلة؛ لكني فشلت؛ لقد خانتني رهافة مشاعري.

وبدأت استمع إلى أغنية أصاحب مين لهاني شاكر..

بعد سنتين من إقامتهم في كربلاء، عادت عائلتها إلى البصرة ولما زرتهم، إذْ كانت وحدتي العسكرية عند بحيرة الأسماك؛ استقبلوني بطيبة البصريين وذبحوا دجاجة لقدومي؛ لكني كنت أريد أنْ أراها؛ ولم أتمكَّن. زحف اليأس إلى مهجتي، وقبل وداعهم حدثت مفارقة لم أتوقعها؛ تناهى إلى مسامعي أغنية أصاحب مين؛ ظننتُ أنَّ الأغنية جاءت من المذياع مصادفةً، بعد سنوات طوال من زواجي بها؛ اعترفت لي أنَّ الأغنية لم تكن من المذياع؛ إنَّما كانت من آلة تسجيل؛ وكانت تستمع لتلك الأغنية مذ فارقت كربلاء؛ وحرصت في زيارتي لهم أنْ اسمعها قبل مغادرة دارهم.

 منذُ أسبوع والبرد لا يرحم والأمطار غزيرة؛ هنا في مدينة بيرث الأسترالية. كأنَّ السماء لم تذرف دمعاً منذُ سنوات طوال.

أيقظتني زوجتي في الساعة السادسة والنصف هذا الصباح لأنَّ مركبتها لا تشتغل؛

قلتُ لها خذي مركبتي.

أجابتْ بصراحة: لا أثق بها!

نهضتُ جزعاً؛ لأني أمضيت ليلة أمس حتى الخامسة فجراً أقرأ في رواية الشرق المتوسط؛ كنتُ قد طالعتُ هذه الرواية لمَّا كان عمري 20 عاماً؛ ولا أدري لماذا استهوتني ليلة أمس.

تحت وابل المطر نجحتُ بتشغيل مركبتها؛ ذهبت فرحانة إلى عملها، لكني حين عدت ُ إلى فراشي قلتُ مع نفسي:

- لا فرق؛ فيما مضى كنت تفيق فجراً كل يوم؛ لتقف في ساحة العرضات هناك في البلاد، وها أنت تنهض فجراً في مهجرك البعيد وعمرك أصبح خمسة وستين عاماً؛ كأنَّكَ مازلت جنديَّاً في الحرب.

 

 

 


مشاهدات 67
الكاتب حسن النواب
أضيف 2025/08/25 - 2:19 PM
آخر تحديث 2025/08/27 - 2:21 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 482 الشهر 19566 الكلي 11414652
الوقت الآن
الأربعاء 2025/8/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير