الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
استغلال الدين في الديانات الغنوصية

بواسطة azzaman

استغلال الدين في الديانات الغنوصية

احمد عناد

 

إذا كانت الديانات السماوية قد واجهت معضلة استغلال النصوص والطقوس في خدمة السلطة السياسية والقومية، فإن الديانات الغنوصية قد واجهت نوعًا آخر من الاستغلال: استغلال “المعرفة السرّانية” كأداة للتمييز والسيطرة الروحية.

الغنوصية: المعرفة طريق الخلاص

الغنوصية، التي ازدهرت في القرون الأولى للميلاد، نظرت إلى العالم المادي كنتاج لإله أدنى (الديميورج)، ورأت أن الروح البشرية غريبة عن هذا العالم، وأن خلاصها يتحقق بالمعرفة الباطنية (الغنوص) التي تكشف لها أصلها الإلهي. هذه الرؤية بدت، في ظاهرها، عصيّة على التسييس، لأنها ترفض مؤسسات السلطة وتضع الخلاص في الداخل الفردي.

لكن، ما إن تحولت الغنوصية من تجربة فردية إلى جماعات منظّمة، حتى بدأت تفرز هياكل نخبوية. فالمعرفة الباطنية لم تُمنح لكل إنسان، بل حُصرت في “العارفين”، بينما بقيت الجماهير في مرتبة دنيا. وهنا ظهرت بذرة استغلال جديدة: سلطة روحية تستند إلى الغموض والسرّانية، لا إلى النصوص العامة كما في الديانات الإبراهيمية.

المانوية: المثال الأوضح

في القرن الثالث الميلادي، أسس ماني ديانة جمعت بين عناصر مسيحية وزرادشتية وبوذية. رفع شعار الصراع بين النور والظلمة، ورأى أن الخلاص يتحقق بالانفصال عن المادة. المانوية بدت رسالة للتحرر، لكنها سرعان ما تحولت إلى منظومة صارمة: قسّمت أتباعها إلى “الصفوة” من الرهبان الذين يحافظون على نقاء روحي مطلق، و”السامعين” الذين يخدمونهم. وهكذا تحوّل الدين، الذي بشّر بالمساواة الكونية بين قوى النور، إلى نظام طبقي روحي، تستفيد فيه النخبة من العامة.

الغنوص المسيحي: المعرفة بدل الخلاص العام

في بعض النصوص الغنوصية المسيحية (مثل إنجيل توما وإنجيل يهوذا المكتشفين في نجع حمادي)، يظهر يسوع كمعلم سرّاني يقدّم تعاليم خاصة للمختارين. هذا البُعد الباطني منح الغنوصيين شعورًا بالتفوق على الكنيسة الرسمية. لكن حين تكرّست الفكرة، تحولت إلى شكل من “احتكار الخلاص”، حيث صار الدين أداة للتمايز بين من يملكون “المعرفة” ومن يفتقرون إليها. هذا الاستغلال المعنوي خلق بنية سلطة داخلية، رغم أن الرسالة الأصلية كانت التحرر من السلطة.

التصوف والبعد الغنوصي

حتى في الإسلام، حملت بعض تجارب التصوف طابعًا غنوصيًا في جوهرها: التركيز على الباطن، رفض الظاهر، اعتبار الخلاص رحلة داخلية. لكن حين تماهى بعض المتصوفة مع السلطة، أو حين تحولت التجارب الروحية إلى “طرق” لها مراتب ومقامات، ظهر نمط شبيه بما واجهته الغنوصيات القديمة: المعرفة تحولت إلى تراتبية، والتجربة الروحية تحولت إلى مؤسسة.

فلسفة الاستغلال في الغنوصية

ما نستنتجه هنا أن الاستغلال في الغنوصية لم يكن سياسيًا أو قوميًّا بقدر ما كان وجوديًا ونخبويًا. فإذا كان استغلال الدين في اليهودية والمسيحية والإسلام يدور حول الحكم والسيطرة على الجماعات، فإن استغلال الغنوصية دار حول احتكار الحقيقة الروحية ذاتها.

وهذا يكشف لنا أن الدين، سواء كان نصيًا أو باطنيًا، يظل معرضًا للانحراف حين يتحول إلى سلطة: سلطة الطقس أو سلطة المعرفة. وكما يقول الفيلسوف نيتشه: “حيثما توجد جماعة، يوجد خطر عبودية جديدة، حتى ولو كانت باسم الحرية”

 


مشاهدات 112
الكاتب احمد عناد
أضيف 2025/08/23 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/08/24 - 9:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 327 الشهر 17070 الكلي 11412156
الوقت الآن
الأحد 2025/8/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير