الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المندك بباء البسملة


المندك بباء البسملة

علي وجيه

 

(1)

تفكّرتُ مرّةً، لفترةٍ ليستْ بالقصيرة، بالقصيدة الكوثريّة الشهيرة، للسيّد رضا الهنديّ (طاب ثراه)، وكان تفكُّرَ شاعرٍ، لا مُتقرّبٍ من موضوع كتابتها، أعني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذه القصيدةُ، بالنسبةِ لي، واحدة من النماذج الناجحة شِعرياً نجاحاً تامّاً، من حيثُ تنوّعها، وجديدها، وعاطفتها وعقلها، وسردِها وكناياتها، فنّاً ومبنىً ومعنى.

وخلصتُ في تلك الفترة العجيبة إلى أنّ مَن يندكُّ بموضوعٍ، تفكيراً وحبّاً، وكان يمتلكُ أدواتٍ مكتملة، سيصل إلى كُنهِ المكتوب عنه، حتى ليكادُ المكتوب عنه أن يفتحَ مغاليقَ نفسِهِ للعاشق الكاتب، وأنعمَ الأميرُ (عليه السلام) للهنديّ بهذه القصيدة، ورغم أنه شاعرٌ مُجيدٌ بأغلبِ ما كتب، إلاّ أن مَن يتحسّس اللغة، سيرى أن الكوثريّة في سياقٍ مُختلف، وطعم مختلف، في كلّ ديوانه العامر.

(2)

كبرتُ، وفي بيتنا رجلان فقط: رجلٌ على الجدار، بصورةٍ مهيبة، بقربهِ أسد، وهي الصورة الشهيرة للإمام (عليه السلام)، بالملامح الحجازيّة الهادئة، والهيبة، والرجلُ الثاني هو وجيه عبّاس نفسه، الذي علّق الصورة على الجدار. وأنّ هذه الصورة كانت توحي لي، مثلما أوحت لكلّ شيعيّ، بأنها حلٌّ لكلّ مشكلة، وطمأنينة من كلّ قصف، ترنو إليها الأمّهات حين تُصيبُ الحمّى أطفالهنّ، ويلجأ إليها الرجل حين يعركُهُ الرغيف واستصعاب توفيره، تطلبُ العانسُ زوجاً منه، والعاقرُ طفلاً، والصورةُ بختُ البيت، واستناده، وهي الصِلةُ بيننا وبين القبّة الذهبيّة، التي نأنسُ بالذهاب إليها كلّ فترة.

لكنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن في بيتِنا مجرّد صورة، كان متمظهراً في كلّ السلوكيات، حين خلعَ عليّ والدي اسمه الكريم، الذي ورغم شيوعه، أشعرُ بندرتِهِ، ومع صوتِ الشيخ د.أحمد الوائليّ (رحمه الله) المنسرب من مذياع البيت، كان يردُ ذكر عليّ (عليه السلام)، وإن نظرتَ للمكتبة، كان ثمّة (نهج البلاغة)، وثلاثيّة جرداق عن الإمام، وموسوعة الأميني (الغدير)، وعلى خصورِنا كان ثمّة ميداليات تحملُ صورةَ الإمام المُتخيَّلة، وحين راهقنا كانت السلاسلُ الفضّية تحملُ سيف ذي الفقار.

ومن الطلْق الذي يضربُ النساء فيندبْنَهُ، ومن كلّ محاولٍ للنهوض وهو يقول “يا عليّ”، كان الإمام واسمه وملامحه وسيرته وبطولته وظلامته وتميّزه، حاضراً في كلّ عناصر البيت، حتى أورثنا وجيه حبّ عليّ (عليه السلام)، أعني أبناءه وبناته، رغم اختلاف تعاطينا مع الدين والطقوس، كلاّ على حدة، وبطريقتهِ الخاصة.

(3)

يُخيَّلُ لي، أنّ اسمَ “عليّ”، ذا الحروف الثلاثة، هو أُنْسُ وجيه، وجهتُهُ الآمنة من العالم، مُنطلقاً من يقين عجيب به، فكنتُ أشاهدُهُ، وهو ذو حياةٍ محتدمة، دراميّة، امتدّت من الشعر حتى الإعلام، مروراً بسلك الوظيفة وليس انتهاءً بالسياسة، قبل أن يتقاعد، مُتفرّغاً للصناعتين العظيمتين: القراءة والتأليف.

أنجزَ، قبلَ هذا الديوان كتابَهُ (في البحث عن عليّ)، وهو قراءةٌ وتفكّرٌ وتحليل، يقتربُ من العرفان، لشخصيّة الإمام، وسيرته، انطلاقاً من الإرث التأويليّ الشيعيّ، وربّما استندَ وجيه عبّاس على السطر الساحر في دعاء عرفة، للإمام الحسين (عليه السلام)، أعني القول الذهبيّ “إلهي، تردّدي في الآثار، يوجبُ بُعدَ المزار”، فقد ألزم نفسه بعدم زيارة ضريح الأمير، إلاّ بعد إكماله الكتاب، وكان ابتعادُهُ هو الانغماس والانهمام في آثار الإمام (عليه السلام)، قولاً وسيرةً، ومناقبَ.

لكن وجيه، أولاً وأخيراً، شاعرٌ، وإن كان الباحثُ والكاتبُ ملتزماً إلى حدّ كبير بمنهج، فإن روح الشاعر، التي تنفلتُ ولا تجنحُ إلاّ لإيقاعها وعَروضِها ولغتِها، فقد كنتُ شاهداً على حدثٍ إعجازيٍّ شعرياً: وهو (الديوان العلويّ لوجيه عباس)، الذي بين يديكم.

لكنّ العتبة النصّية مُخاتِلة، فالديوانُ ينطلقُ من “العَلويّة” ابتداءً من التفكّر الشعريّ بشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فهو استنادُ شخصيّة الأمير (عليه السلام)، ليكسرَ وجيه عبّاس شيئاً ممّا يدّعيه خصومُ الشيعة وأعداؤهم فيما يُقال من غلوٍّ وتقديس للأمير على حساب خاتم الأنبياء، ثمّ ينوّع، وحضور فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الديوان مركزيّ، فهي بضعةُ أبيها، وزوجة الوصيّ، والحجر الأساس الذي يقوم عليه التشيّع، ويمتدُّ الديوان على أبنائِهما من الأئمة (عليهم السلام)، مثل خيوط تنتظمُ ثوباً من نور اسمه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(4)

مُنذ استشهاد الرسول (صلى الله عليه وآله)، حتى هذا العقد من تأريخ الشيعة، يكادُ يكونُ التمثّل الشعريّ لشخصية الأمير في الشعر العربيّ، ونثره، عبر سياقين، فالأول مناقبُ الإمام التي يلقيها الشيعة على خصومِهم، بشأن أحقيّة الخلافة، أو الظلامة التي تعرّض لها، والسياق الثاني هو الامتثال لشجاعة الإمام وعدله، وهو بالغالب نسق سياسيّ، أفادت منه حتى آيديولوجيات ليست إسلامية، مثل اليسار العربيّ، الذي استعاد الأمير بوصفه عادلاً، ثائراً، شجاعاً، ولم يقتصر الأمر عليه فقط، بل حتى التمثّل الشعريّ لشخصيات مثل: الإمام الحسين (عليه السلام)، وأبي ذرّ الغفاري (رضي الله عنه).الضغطُ السياسيّ الذي تعرّض له العلويون، الشيعة، في مختلف بقاع الأرض، كان يعني حينها اللجوء إلى “المتحف الشيعيّ” بوصفه “ترسانة” للهويّة، كي تسند الجماعة وسرديّتها، لهذا، ورغم آلاف الكتب، القصائد، المقالات، لم يتم – على حدّ علمي – الكتابة عن الأمير بوصفِهِ شخصيّةً للتفكّر الشعريّ، وبنسقٍ هادئ، إلاّ حينما كان ثمّة استقلال سياسيّ وتمثّل للشيعة في المنطقة العربيّة، بعد 15 قرناً من “مقاتل الطالبيين” التي لم تتوقّف قَط، حتى حين أغلقَ أبو الفرج الأصفهاني كتابه الشهير.

من كشف بيتِ الأمير، إلى سبايكر، وليس انتهاءً بالضاحية – لبنان، كان الاستنادُ على الأمير بوصفهِ الشخصية التي يُلجأُ لها، الشخصيّة الموثِّبة، الشخصية التي تحفظُ النوع، وهو (روحي له الفداء) شخصيّة بانورامية عجيبة، قيل الكثير في تنوّعها، لكنه الشخصيّة العربية الوحيدة التي يستطيعُ أن يتمثّل بها كلّ باحث عن منقبةٍ وفضل، من الشجاعة إلى البلاغة، ومن التقوى إلى التخطيط الستراتيجيّ، ومن الصبر إلى العدل، ومن الزهد إلى الأمانة، فهو تمامُ مناقب الأخلاق.

يكتبُ وجيه عبّاس (الديوان العلويّ لوجيه عباس) كما لم يكتبْ شاعرٌ شيعيّ ما كتبَهُ عن أميره، فهو لا يواجهُ ضغطاً سياسيّاً، وإنما يدخلُ القصيدة بوصفها أداة تفكير وتحليل وتأمّل، مستنداً لتراث الأمير من جهة، أو صلاةً من نوعٍ آخر، لقسيم الصراط، ويعسوب العبور إلى الفردوس، حتى نكادُ لا نرى آخرين في النصّ، ثمّة مَن يتعبّدُ بالقصيدة، يقرأُ مقاميْ التنزيل والتأويل، ويقتربُ من التوحيد كلّما دنا من شواطئ الأمير وضفافِهِ، منطلقاً من دلالات حرفه، وسيرته، ومناقبه، منذ انشقاق جدار الكعبة المشرّفة، حتى الصوائح والنوائح في فجر الاستشهاد الخالد.أزعمُ أنّ هذا النسق الجديد، سيقدّمُ قراءةً وعدوى إيجابية، لمحاولة فهم الأمير وسيرته وشخصيّته بطريقةٍ شِعرية، فالشخصيّة المركّبة، البانورامية، التي لا يُشبهها أحد، ما تزالُ صالحة لآلاف القراءات، غير القراءة التأريخية الساردة من جهة، والقراءة السياسيّة الموثِّبة، من جهةٍ أخرى.

(٥)

أعودُ لاندكاكِ وانهمامِ الهندي، بكوثريّته، ثم لأكون شاهداً شخصيّاً على رجلٍ، يجلسُ وحولَهُ محابرُهُ وأقلامُهُ ومسبحته، وليس في ذهنِهِ سوى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

 

 

 لمدّة ٤ سنوات (ثلاثٌ منها لكتابة “في البحث عن عليّ”، وواحدة لـ”الديوان العلويّ لوجيه عباس”)، حتى يكادُ لا يتحدثُ بحديثٍ غير الإمام، وأحياناً يشاطرني، وأنا سميُّ معشوقِهِ وأوّلُ قرّائه، كلّ تأويلٍ جديد يحصلُ عليه، نثراً في كتابه الأول، أو شعراً، رباعيّةً أو مقطعاً أو قصيدة طويلةً، في الديوان العلويّ.

اندكّ وجيه عباس بباء البسملة، بعوالم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) التي تبدأُ ولا تنتهي، حتى منحَهُ الأمير، توفيقَهُ، وفتحَ جزءاً من أسرارِهِ، حتى لأكادُ أن أرى مؤلِّفاً آخر غير وجيه عبّاس لهذا الديوان، وكأن ثمّةَ فتوحاتٍ وإشراقات من الأمير، من خلال أصابع وجيه، التي تلطّخت طهراً بالحبر الأسود والأزرق، فمَن يندكُّ بأمرٍ، ويستغرق فيه، سيمنحُهُ أسراره، وتأويلاته، بطريقةٍ لا تخطرُ على بال المُندكّ نفسه.

 

(٦)

هذا المتنُ، كشفٌ آخر لعوالم الإمام (عليه السلام)، الإمام الذي طمأنَ وجيهَ وزوجته وأبناءه وبناتِهِ لعقود، من صورتِهِ على الجدار، وقربه الأسد، وليس انتهاءً بفهرست (الديوان العلويّ لوجيه عباس)، فأسأل الله التوفيق المستمرّ لكلّ شاعرٍ، كما وُفِّقَ وجيه عبّاس بعمله الإعجازيّ هذا، أن يكتبَ بموضوعٍ واحدٍ، ديواناً عامراً، معنىً ومبنىً، وتأويلاً، في عامٍ واحد.

 

 


مشاهدات 76
الكاتب علي وجيه
أضيف 2025/08/22 - 10:46 PM
آخر تحديث 2025/08/23 - 3:36 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 434 الشهر 16526 الكلي 11411612
الوقت الآن
السبت 2025/8/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير