الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قطة على النافذة وطفل تحت الركام

بواسطة azzaman

قطة على النافذة وطفل تحت الركام

سيف الحمداني

 

في عالم بات يرى بعين واحدة، تغزو المشاعر منصات التواصل وتُشعل التعليقات والصور، حين يتعلّق الأمر بحيوان تائه أو طائر مذعور أو قطة ترتجف تحت المطر. آلاف المشاركات، مئات الآلاف من التفاعلات، قلوب حمراء تتطاير، وحملات إنقاذ تبدأ في دقائق.

وفي الضفة الأخرى من المشهد، هناك بشر تُمحى حياتهم بقذيفة، وتُسحق طفولتهم بجرافة، ويتآكل جوعهم في مخيم منسيّ على هامش خريطة العالم. لا تفاعل، لا دموع، لا قلوب. فقط صمت، وربما تمرير سريع للخبر، كمن يتجاوز إعلانًا تجاريًا بلا اكتراث.

هذا الاختلال في ميزان التعاطف الإنساني ليس مجرّد ظاهرة عابرة، بل هو مرآة لعصر يُعيد تعريف الرحمة حسب درجة “الراحة النفسية”. فبينما يُعتبر التعاطف مع الحيوان نقيًا، خاليًا من السياسة أو الجدل أو الشعور بالذنب، فإن التعاطف مع الإنسان – لاسيما في مناطق الصراع – بات فعلاً مكلفًا، يحتاج إلى شجاعة لا يملكها الجميع، ويستوجب موقفًا لا يجرؤ كثيرون على اتخاذه.

في غزة، اليمن، السودان، بورما، وسوريا، ملايين من البشر لا يطلبون سوى أن يُرى وجعهم، وأن يُعترف بمأساتهم. ومع ذلك، فإنهم يظلون خارج دائرة الضوء الإنساني، تُمرر أخبارهم كما تُمرر أرقام الطقس: مجرد إحصاءات لا توقظ القلب.

في المقابل، فإن صورة كلب يُنتشل من الطين، أو غزال يتعثر في الأسلاك، قد تشعل ضمير العالم بأسره، وتحرّك الحكومات والمنظمات، بل وتُنقَل في نشرات الأخبار العالمية كخبر أول.

ليس الهدف من هذا الطرح التقليل من شأن الرحمة بالحيوان، فهي من علامات التحضر، ودليل على رقيّ المجتمعات. لكن ما يدعو للأسى هو حين تتحول هذه الرحمة إلى عدسة تُكبّر ألم الحيوان وتُقلّص وجع الإنسان.

الطفل الذي ينتحب تحت الركام لا يملك صوتًا يغرّد به، ولا كاميرا تلتقط له لحظة نجاته. الأم التي تموت جوعًا كي تطعم أبناءها في مخيمٍ ناءٍ، لا تثير فضول المتابعين، لأنها لا تدخل في إطار “القصص اللطيفة”.

فهل وصلنا إلى لحظة بات فيها الإنسان أقل إثارة للتعاطف من طائر جريح؟

هل أصبح العالم بحاجة إلى أن يموت أحدهم بشكل درامي، كي يُؤخذ ألمه على محمل الجد؟

وهل تغيّرت معايير الرحمة، أم أننا نحن من تغيّرنا؟

في زمن يمتلئ بالمآسي، يصبح السؤال الأخلاقي الأكبر: لماذا نُحب أن نشعر بالشفقة، لكننا نخاف أن نشعر بالمسؤولية؟

وهل هذا هو جوهر الفرق بين قطة جائعة على النافذة، وطفلٍ تحت الركام؟

 

 


مشاهدات 152
الكاتب سيف الحمداني
أضيف 2025/07/25 - 11:49 PM
آخر تحديث 2025/07/26 - 3:31 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 537 الشهر 17391 الكلي 11171003
الوقت الآن
السبت 2025/7/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير