المدينة الفاضلة
محمد زكي ابراهيم
من أجل تحقيق العدالة وردع الظلم، اقترح الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون (427 – 347 ق.م) أن يتولى الحكماء السلطة.
ولم يكن – بنظره – من هو أفضل منهم في إدارة البلاد، وليس ثمة من يفوقهم تدبراً وحنكة، لسبب بسيط هو أنهم اعتادوا الفصل بين الذات والموضوع، أو بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
وهم قادرون، بسبب ذلك، على اتباع أفضل الوسائل للعمران، وأنجح السبل لتحقيق العدالة بين السكان.
وكان الحكماء في الماضي ذوي نظر في الموجودات، والماهيات، والأعيان، والكليات، وغيرها. وكانت هذه المفردات هي ميزان الحكمة.
أما في هذا العصر، فقد استجدت أمور كثيرة، ودخل علماء الرياضيات والطبيعة والاجتماع والتاريخ واللغة في هذا التعريف، وبات الحكماء أكثر تنوعاً من ذي قبل.
وافترض أفلاطون أن الناس في مدينته الفاضلة ستمنح السلطة لهم طواعية، وتتوسل إليهم أن يقبلوا بها عن طيب خاطر.
وللأسف، لم تتحقق رغبة أفلاطون هذه إلا في أحوال قليلة نادرة، فليس لدى الحكماء قدرة للوصول إلى السلطة بالوسائل الشائعة، وليس ثمة من يتنازل لهم عن الحكم طوعاً.
بل إن مواصفات السياسي الذي يعبئ الجماهير لا تنطبق على الفيلسوف، وليس لديه المحددات التي تمنعه من التمادي في الباطل.
وقد أثبتت التجارب عجز الفلاسفة عن مجاراة السياسيين في الصراع على السلطة.
كان بنجامين فرانكلين، مثلاً، من أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، وهو مخترع وفيزيائي وصاحب نظريات علمية، كما كان دبلوماسياً ورجل دولة، إلا أنه لم يتولَّ الرئاسة أبداً، ومات في عهد الرئيس العاشر عام 1790.
وكان هناك من الزعماء الفلاسفة غاندي ونهرو في الهند، وقد تولى الثاني رئاسة الوزراء بعد أن ذاق مرارة السجن سنوات طويلة، وكانت رئاسته هذه محط إعجاب شعوب العالم.
فيما اغتيل الأول عام 1948 بعد أشهر من الاستقلال، بسبب نبذه للعنف، ودعوته مواطنيه إلى الكف عن إبادة المسلمين.
وكان هناك فيلسوف هندي آخر معاصر لغاندي هو رابندرانات طاغور، اختلف معه كثيراً؛ فقد مال هذا إلى “المادة”، في حين تمسك الآخر بـ”الروح”.
وكانت كفة غاندي هي الراجحة، لأن الهند هي بلد الحكمة والتصوف منذ آلاف السنين، وكالعادة، فإن طاغور بقي بعيداً عن السلطة تماماً مثل صاحبه.
وكان فلاديمير لينين، مؤسس الاتحاد السوفيتي، معدوداً في طبقة الفلاسفة، وقد تولى السلطة لحقبة قصيرة لأنه زعيم الحزب الحاكم.
ولم يتخلف ستالين عن هذا الوصف، رغم كل ما ارتكبه من فظائع. لكنه – كما قال فوكوياما – صنع لبلده في 11 عاماً ما صنعه الأوروبيون في مئتي عام، أي أنه قدم الكثير لبلاده في ذات الوقت الذي أذاق فيه معارضيه صنوف العذاب!
وليس هناك غنى عن أشخاص من هذا الطراز، سواء كانوا في السلطة أو خارجها، فمقولة أفلاطون هي إحدى حقائق الحياة في هذا الكون، وهي التي يقر بها الجميع، ويقرون أنها عين الصواب، وليس ثمة ما يبعث على الظن أنها انحياز منه للمهنة التي منحته سلطة معنوية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، وربما ستظل كذلك إلى أمد غير معلوم.
أن معرفة الحق، والعزوف عن الباطل، مهمة جليلة لا ينهض بها إلا أشخاص استثنائيون، ولا يمتلك هذه الميزة في العادة إلا من آثر الإخلاص للحقيقة ولم يتخلَّ عنها طرفة عين.
وإذا ما قُيِّض لبلدٍ ما زعاماتٌ من هذا الطراز، فستحظى بالكثير من الإنجازات التي يتعذر على الآخرين النهوض بها، وتُصبح مثلاً يُحتذى في حسن الاختيار وصواب الرأي، لأنهما معيارا التقدم والحضارة.