رحيلك حزنٌ لا يمحوه الزمن
رافع السراج
خمس سنوات مرت على رحيل قامة من قامات الموصل والعراق، الخطاط والمؤرخ والتراثي الفذ يوسف ذنون، ومؤسس مركز يوسف ذنون وما زال وقعُ الخبر كأمسٍ قريب مذ غاب عنّا قامةٌ علميةٌ وهامةٌ تربويةٌ لن تتكرر، سنوات مضت على غياب جسده، لكن ذكراه ما زالت حية، وآثاره باقية، وصدى صوته يتردد في كل زاوية من زوايا الموصل التي أحبها وأفنى عمره في خدمتها. وظل إرثه المعرفي والفني حيًا في قلوب محبيه وطلابه، حيث كان بحراً من العلم والمعرفة، وموسوعة متنقلة في فن الخط العربي، وتاريخ الموصل العريق، وتراثها الثقافي الغني. لم يكن مجرد خطاط مبدع يخط الحروف بمهارة فائقة، بل كان فناناً يضفي على كل حرف روحاً، وعلى كل كلمة معنى. كانت أنامله تحكي قصصاً من الجمال والإتقان وكان مؤرخاً دقيقاً يغوص في بطون الكتب والمخطوطات ليكشف عن كنوز الماضي، وينير دروب الحاضر. كان حريصاً على حفظ تراث الموصل من الاندثار، وشاهداً على عظمة حضارتها، وعازفاً على اوتارها الغناء .
وكانت جلساته أشبه بواحاتٍ غناء نرتوي منها العلم والمعرفة، فلا نملُّ حديثه ولا نشبع من فيض علمه وكنا نترقب مواعيد لقاءه بشغف، ونحرص على ألا تفوتنا كلمةٌ واحدةٌ مما يقول، فكل كلمةٍ منه كانت كنزًا، وكل توجيهٍ منه كان دليلاً وإرثاً خالداً وذكرى لا تزول...
ولعل تأسيسه لمركز يوسف ذنون للدراسات والأبحاث التاريخية والفنون كان تتويجاً لعطائه اللامحدود، حيث اصبح منارة للعلم، وملتقى للمثقفين، وحاضنة للمواهب الشابة. وقد سعى من خلاله إلى نشر الوعي بالتراث، وتدريب الأجيال القادمة على فن الخط، وغرس حب اللغة العربية في نفوسهم. وهاهو اليوم ابنه البار أسامة يوسف ذنون مدير المركز يسعى وبجد لادامة رسالة المركز من خلاله عمله الدؤوب في استمرارية نشاط المركز ودوام دورات تعليم الخط فيه . إن غيابه الجسدي لم يوقف تدفق إرثه المعرفي والفني، فما تركه من أعمال ومبادئ سيبقى نبراسًا يضيء طريق الأجيال القادمة وكان يرى في الخط العربي ليس مجرد فن، بل هوية ثقافية وحضارية يجب الحفاظ عليها وتطويرها كتراث خالد وأثر لا يمحى ونحن في هذه الذكرى الاليمة التي تتجدد فيها أحزاننا ولكن عزاءنا الوحيد أن الأستاذ يوسف ذنون قد ترك وراءه جيلًا بأكمله يتذكره بالخير ويدعو له بالرحمة والمغفرة. لن ننسى أبدًا تلك القامة الشاهقة، وذلك الصوت الهادئ الذي كان يصدح بآيات العلم والحكمة ولم يكن تأثيره مقتصرًا على العراق بل تجاوز الحدود ليصبح اسم يوسف ذنون مرادفًا للخط العربي الأصيل في المحافل الدولية .وستبقى ذكراه العطرة حافزاً لنا للمضي قدماً.