فجيعةُ عاشوراء
حسن النواب
هذه ظهيرة مذبحه، فلا عجب أنْ ترى السماء واجمةً ونجومها مطفأة، ومن عيون الزائرين تسيلُ جرار الدموع، وعلى الرؤوس الحليقة من الذنوب تستريح شمس عاشوراء، في أكفانهم البيض رغوة دم عنيد، والسيوف التي بأكفّهم ناصعة التبيين، يا ديَّان المحبة والشهادة والشهامة والتسبيح، انتقمْ من الثعالب المدنَّسة ذيولها بالاحتيال، وأثأرْ للفقراء من الذئاب التي تنهشُ في لحم الفقراء، أغفر للماء عسرته، وللأرملة حسرتها الخائنة ورغبتها السوداء، وللأطفال هذا السخام الذي زيَّن براءتهم، فهذه ظهيرة منحره التي بطشت بها سيوف المهانة والشماتة، دع اليمام الغاضري يصلّي على جثته بالتبريح، فترابه الطهور لامس كل جبين مشرقي، وعمامته الهاشمية منزل الملائكة في الفردوس، مازالت أخته المسبيَّة؛ أم المصائب ترتِّقُ وحشتها بأسمال الغريب، وتاج البكائيين ولده العليل؛ لم ينهض حتى هذه الدمعة من سجدته، تكاياهُ لما تزل تشعُّ في مشكاة النفوس، وترتيل محبيه يزلزل في بيوت معتمة وقبور، مَنْ سواهُ صلَّى بجماعته صلاة الخوف، ومَنْ سواهُ نثر بدم الرضيع إلى وجه السماء، فأمطر الغيب ملائكة من سندس تحرسهُ، صدورنا التي تقرَّحتْ بذكره، وظهورنا المسلوخة بسلاسل الحديد، ورؤوسنا الفائرة بدم عاشورائي أصيل؛ تتوسَّل شفاعته، هو الباذخ في الشهادة والترتيل، والعطشان في أرض السبيل، والوتر الموتور، هذه ظهيرة منحرهِ، ولمذبحه هذا العويل، وحليب التقوى الصافي يسيلُ من ثغره العلوي نوراً حتى يوم الدين، وها أنا أسجدُ شاهداً بين جثثٍ مزكّاةٍ من الرذيلة، وأدوِّنُ ما تقول من سحرٍ يقشعرُّ لنبرتهِ الحجرْ، هي تحلمُ بترابٍ مطهّرٍ بدمع اليمام حتى يغطيها، سيهوي السيف من كفِّ قاتلها، لو علم إلى أية شجرة مقدَّسة في السماء تنتسبُ، كلُّ عشيِّةٍ يضيء كهرمان دمها، حندس المدينة المكبَّلة بجزية الخوف وقرع الطبول، أيُّ محتل دخلها للسلب والسفك، سيخرج من مذبحها بسيف من خشب ودمع ذليل، مازال نحيب الوافدين يحصِّنُ مزاراتها، من شهوة أصابع الخراب، وهديل اليمام الرمادي في مراقدها، يرتلُّ تعويذة القنديل مع كل صلاة، جثثٌ من نور ملائكي وطين هاشمي ودمها من ماء الكوثر، ما اقتربت من جراحها عسلان البراري، ولا ضباع أرض السواد، سبحان الذي نسج أديمها من برقٍ وعقيقْ، وسبحان الذي نزَّلَ جنداً بلون الماس من زرقةٍ عاليةٍ، ويتقدَّم موكب السبايا سبعٌ بسبعين جناحٍ، وامرأة مفجوعة خدرها يختصر عفاف مملكة النساء، ودليلٌ عليلْ، هبط الركب السماوي على أرضٍ لها لون السمَّاق، فتخلَّى النخل عن سعفهِ، وغمر الدرب بالخضرة، وسوّرَ جثث الظليمة بالرطب، لكنَّ جثث الفجيعة استفاقت على عويل ثاكل، وارتدتْ لامة حرب مشرقية وصاحت هبنا دماء سرمدية، حتى نحارب من أجل الحسين، سبط النبي، ونستشهد من جديد، إنَّا نعرف خذلان الرعيَّة، والمذلَّة المذلَّة لابن مرجانة وابن سعد والشمر اللعين. هي الآن تغادر الثرى الكربلائي الرطيب بدماها، وتنهمر عبراتها بوميض مشكاة الله، وتومئ للعليل حتى يأذن لأفراس القيامة بالنزول من شرفة إسرافيل، كي ترتوي من ماءٍ أُجاجٍ، لا أُسمّي نهره، وتغيرُ بجمرة الثأر على منابر الريش، يتبعها السبع المجنح، وامرأة مسبية وسرب أطفال يشبهون أقماراً ذبيحة في نهر العلقمي، على رأسها أوتاد خيام أحرقها الأوغاد، وشهقات الله تبلسمُ جراحات الجثث، لمح موكبها عابر سبيل تعبر أسوار الغاضرية، وسماء تمطر تبراً لتغطيها ويؤطر مسراها ترتيل ملائكة تهتفُ لبيك يا حُسين.