في قلب المفارقة.. عندما تهاجم القوة النووية من لا يملك سلاحاً
محمد علي الحيدري
في المشهد الراهن لصراع يتخذ طابعًا مفتوحًا بين إسرائيل وإيران، تطفو إلى السطح مفارقة سياسية وأخلاقية لا يمكن التغاضي عنها، حتى من قِبل أولئك الذين اعتادوا تبرير ميزان القوى المختل في الشرق الأوسط. فها نحن أمام دولة لم توقّع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ولم تُخضع منشآتها النووية لأي رقابة دولية، بل تواصل احتفاظها بترسانة نووية سرّية ومحصّنة، تقرّر –بلا إذن من الأمم المتحدة أو أي تفويض قانوني– أن تهاجم، عسكريًا أو سيبرانيًا أو استخباراتيًا، دولة أخرى تُعد من الموقعين على المعاهدة، وتخضع بشكل دوري لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم تُثبت عليها في التقارير الأخيرة أيّ انتهاك جوهري للاتفاقيات الموقعة.
المفارقة هنا ليست في مشهد القوة ذاته، بل في غياب الاتساق المعياري في النظام الدولي. فحين تصبح الدولة الخارجة عن الأطر القانونية هي التي تقود الهجمات الوقائية باسم “منع التهديد”، بينما الدولة الخاضعة لتلك الأطر تُستباح باسم ذات الذريعة، فإننا نكون أمام انهيار جوهري لمبدأ العدالة في تطبيق القانون الدولي، لا سيما في أكثر ملفاته حساسية: الانتشار النووي.
لا يعني هذا بالضرورة تبرئة إيران من كل ما يمكن أن يُقلق جيرانها أو خصومها. فطموحاتها الإقليمية، وشبكة تحالفاتها الممتدة عبر الجغرافيا العربية، ومواقفها الخطابية والسياسية، كلها أمور تثير جدلًا مشروعًا. لكن السؤال المركزي هنا لا يتعلق بالنيات أو حتى بالتحالفات، بل بمسألة معيارية بحتة: من الذي يحق له استخدام القوة تحت عنوان “منع التهديد النووي”، وما هي الشروط التي يجب أن تحكم هذا الفعل وفقًا للقانون الدولي؟ وهل يُعقل أن يبقى العالم صامتًا إزاء تقويض هذا القانون من طرف لا يلتزم بأبسط قواعده؟
حماية امن
إن جوهر الأزمة لا يكمن فقط في ازدواجية المعايير، بل في صناعة واقع جديد يُشرعن سلوكًا بالغ الخطورة: أن تحتكر بعض الدول حق المبادرة بالهجوم تحت ذرائع أمنية، بينما تُحرم دول أخرى من مجرد الدفاع عن نفسها سياسيًا أو حتى تقنيًا. وهكذا تتحول معاهدة منع الانتشار من أداة لحماية الأمن الجماعي إلى سيف يُشهر على رقاب من التزم بها، بينما تُكافَأ الدولة التي تجاهلتها بكل أشكال الغضّ الدولي للطرف.
ما يزيد الصورة قتامة أن بعض القوى الكبرى التي تُفترض فيها رعاية القانون الدولي، تبدو متواطئة –صمتًا أو دعمًا – مع هذا الخلل الهيكلي. بل إن السياسات الغربية، خصوصًا الأميركية، لا تخفي انحيازها لصالح الطرف الذي يمتلك السلاح النووي ولا يعترف بشرعية أي مساءلة. في المقابل، تُفرَض على الطرف الآخر عقوبات، وتُثار حوله الشبهات، وتُهدد منشآته، بل ويُمنح خصمه “حقًا مكتسبًا” في ضربه متى شاء، تحت مظلة “الوقاية” التي لم تُعرّف يومًا تعريفًا قانونيًا دقيقًا في مثل هذه السياقات.
ليس المطلوب هنا إعادة تعريف العلاقات الدولية بمثالية أخلاقية معزولة عن الواقع، لكن من الضروري الإقرار بأن اتساع هذه الهوة بين ما هو قانوني وما هو واقعي ينذر بخطر أعمق من مجرد اشتباك موضعي بين إيران وإسرائيل. إنه يعيد تشكيل نظام الردع العالمي خارج قواعده المتعارف عليها، ويعطي إشارات خطيرة لدول أخرى في الإقليم وخارجه مفادها: لا جدوى من الانضمام إلى المعاهدات إذا لم تكن تملك ما يُخيف العالم حقًا.
وهكذا تصبح الرسالة الضمنية: إذا أردت أن تُحمى، فامتلك سلاحًا نوويًا. وإذا أردت أن تُستباح، فالتزم بالقانون.
وهذا، في جوهره، ليس فقط إخفاقًا في تحقيق السلام، بل نسفٌ لمبررات القانون الدولي ذاته.