(الزمان).. أجمل الاقدار
هدير الجبوري
هناك لحظات لا تُنسى، لا لأنها عظيمة فحسب، بل لأنها تفتح لنا أبواباً كنا نحلم بها في صمت، ونرتجيها في سرّنا، حتى إذا ما جاءت، أيقظت فينا كل شغف كان نائماً.
ومن بين هذه اللحظات ماحدث معي منذ سنوات وذلك في اليوم الذي منحني فيه المؤرخ الموصلي الدكتور إبراهيم العلاف فرصة ثمينة حين اقترح عليّ أن أكتب في جريدة الزمان...
لم يكن اقتراحه عابراً، بل كان أشبه برسالة وصلتني من مكان عزيز على القلب، رسالة رآها هو في داخلي قبل أن أراها أنا، حين عرف مقدار حبي للصحافة، وعشقي القديم للكلمة المطبوعة.
كانت الزمان، بطبعتيها في لندن،، وبغداد بوابتي لعالم لم أكن أعرفه حقاً إلا حين انغمست فيه،، عالم جميل، يختلف عن كل ما سبق، يجعل للكلمة وزنها، وللرأي معناه، وللصوت صداه.
بدأ المشوار، ومنذ أول مقال، شعرت أنني أصبحت جزءاً من هذه الجريدة. جزء ليس في الكلمات والسطور فقط، بل من الروح التي تنبض بها، من نبضها اليومي الذي يرافقني كأنني واحدة من أبنائها.
صحيح أنني كتبت قبلها في صحف محلية، أكنّ لها كل الاحترام والتقدير، لكن الحقيقة أن شيئاً منها لم يترك في داخلي أثراً أو معنى كما فعلت الزمان. كانت الجريدة التي منحتني شعوراً نادراً بالانتماء، وأعادت لي إيماني بأن للكلمة وقعاً وأن للصحافة قدراً يشبه الأقدار الجميلة بل يتفوق عليها.
صديق المهنة
لم أتعرف في البداية على محرريها، ولا على رؤساء تحريرها، لكنني عرفتهم فيما بعد، واكتشفت أني كنت أعيش معهم دون أن أراهم، أرافقهم كل يوم، وأحمل معهم همّ الكلمة، وصدق المهنة، وحب الحقيقة.
جريدة الزمان لم تكن مجرد تجربة عابرة، بل كانت موعداً مع الذات، ومع الحلم، ومع الصحافة الرصينة التي كنت أبحث عنها طويلاً.
... ومع مرور الأيام، لم تعد الزمان مجرد منبر أكتب فيه، بل صارت مرآتي التي أرى من خلالها وجهي الحقيقي ككاتبة، وصوتي الذي كان يخفت أحياناً بين الزحام، فإذا به يعلو بثقة بين صفحاتها.تجربتي مع الزمان أعادت صياغة علاقتي بالكلمة، جعلتني أكتب لا لأملأ فراغاً في صحيفة، بل لأقول شيئاً يشبهني، لأدافع عن فكرة، أو أرسم إحساساً، أو أترك أثراً.
تعلمت أن الصحافة ليست مجرّد نقل للحدث بل هي نبض الإنسان حين يكتب، وحرارته حين يشهد، وصدقه حين يروي.
اكتشفت كم أن الصحافة الحقيقية تحتاج قلباً حياً قبل أن تحتاج قلماً، وكم أن الانتماء لمكان يؤمن بك يصنع فارقاً هائلًا في داخلك. أصبحت أحرص أكثر على ما أكتبه، وأعيد التفكير بكل سطر، لا من باب القلق فحسب، بل من باب الوفاء للثقة التي منحتها لي الزمان، وللأثر الذي تركته في نفسي.
ومع كل عدد كانت تنشر فيه مقالاتي، كنت أشعر أني أقترب خطوة من حلمي القديم، ذلك الحلم الذي لم أفصح عنه كثيراً، لكنه كان يسكنني: أن أكون صوتاً حقيقياً في هذا العالم المزدحم بالضجيج.
حتى اليوم، لا تزال كل مقالة أكتبها لجريدة الزمان تحمل شيئاً من الامتنان، وكثيراً من الحنين، وبعضاً من تلك الدهشة الأولى التي شعرت بها حين رنّ في أذني صوت الدكتور إبراهيم العلاف وهو يقول لي: «اكتبي للزمان... فأنتِ تنتمين إليها وكان صادقاً كل الصدق في ذلك
وها أنا اليوم، أنتمي اليها وافخر بذلك ...
خاتمة الحديث
وإنني في هذا الحديث عن الزمان
لا أستطيع أن أختم حديثي دون أن أنحني إمتناناً وعرفاناً عميقاً لصاحب الامتيازورئيس هذه الجريدة العريقة الاعلامي الكبير الاستاذ
( سعد البزاز)....
ولرئيس تحرير الطبعة الدولية في لندن الاستاذ الدكتور (فاتح عبدالسلام)
ولرئيس تحرير طبعة العراق الاستاذ الدكتور (أحمد عبد المجيد)
واقول لهم جميعا شكراً لأنكم آمنتم بالكلمة، ومنحتموني مساحة لأنمو، لأخطئ وأتعلم، لأبوح وأصمت..
شكراً لأنكم كنتم في البعيد قريبين، تلمسون النص بقلب القارئ لا بعين الرقيب، ولأنكم صنعتم من الزمان بيتاً كبيراً تسكنه الحروف لا الأسماء فقط.
إن كل ما كتبته وسأكتبه، سيبقى يحمل في طياته دعاءً صامتاً بأن تبقى هذه الجريدة منارة، وأن تظلّوا أنتم، قادتها، كما عهدناكم أوفياء للصحافة، مخلصين للكلمة، ورفقاء
لكل من حلم أن يكون له صوت في هذا العالم..شكراً لانكم جعلتم من الزمان جسراً يصلنا من ضفّة الحنين إلى ضفّة الحضور، ومرآة نكتب فيها أنفسنا كما نحن، بلا قناع ولا تصنّع.
وشكراً لانكم منحتموني ومنحتم الكثير غيري فرصة أن نكون جزءاً من سرد الوطن وهمّه ووجهه الجميل.
إن كل ما كتبته وسأكتبه، سيظل يحمل في طيّاته امتناناً لا ينضب، لأن في كل عدد من الزمان، كنت أجد قلبي بين السطور، وأشعر أن هناك من يرعاه، ويؤمن به، ويمنحه الحياة...