حزب العمال.. من السلاح إلى الإصلاح

شيرزاد نايف

في خطوة تشكّل منعطفًا حاسمًا في تاريخه، أعلن حزب العمال الكردستاني عن نيّته نزع السلاح، في قرار قد يُعيد رسم معالم العلاقة بين السلاح والسياسة، وتطرح أسئلة عميقة حول جدوى الكفاح المسلح في عالم تتغير فيه قواعد اللعبة الإقليمية والدولية بسرعة مذهلة. ليس مجرد تكتيك مرحلي، بل تغيير استراتيجية ذات دلالات وجودية لمستقبل الحزب، وللقضية الكردية بأسرها.

إن الإعلان عن التخلي عن السلاح، بكل ما يحمله من رمزية في تاريخ الحزب، لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات الجذرية التي شهدتها المنطقة، من تجربة الحكم الذاتي في إقليم كردستان العراق منذ العام 1992، إلى الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. هاتان التجربتان، رغم تعقيداتهما وتحدياتهما، أثبتتا أن الفعل السياسي قادر على تحقيق مكاسب مستدامة للكرد، بعيدًا عن فوهة البندقية.

توتر اقليمي

انه من باب الحكمة ان يكون الاحتماء بالسلاح يتحول إلى احتمالات السياسة لان قرار نزع السلاح قد يحمل في طياته بذور الاستقرار، ليس فقط لحزب العمال بل للمنطقة برمّتها. إذ أن تقليص أدوات العنف يفتح نافذة لخفض منسوب التوتر الإقليمي، مما يُفسح المجال أمام ديناميكيات جديدة للتفاوض والتقارب. فالأمن، كما السياسة، لا يصنع في ساحات القتال بين الجبال والوديان وحروب العصابات بل في مساحات التفاهم والشرعية.

على المستوى الاستراتيجي، يشكل هذا التحول لحظة نادرة لإعادة تموضع الحزب كلاعب سياسي شرعي، يمكنه خوض غمار العمل المدني والمشاركة في الحوارات السياسية، لا سيما في تركيا. تلك المشاركة التي طالما وُئدت بفعل صراع مفتوح مع الدولة، قد تجد اليوم بيئة أكثر واقعية للنمو، خاصة إذا ما اقترنت بضمانات حقيقية من قبل أنقرة.

 لقد كان التحول الاجتماعي من الثورة إلى الحقوق أي الانتقال من العنف إلى السياسة ليس فقط قرارًا تنظيميًا بل هو انتقال في الرؤية للعالم والمجتمع. فالتخلي عن السلاح يفتح الباب أمام خطاب جديد يركّز على الحقوق المدنية والسياسية للشعب الكردي، ويتيح المجال لخلق تحالفات أوسع مع الحركات الديمقراطية داخل تركيا وخارجها. لم يعد بإمكان أي حركة كردية أن تنفصل عن الواقع الرقمي والإنساني الجديد.

 حيث يُصاغ النضال اليوم بالكلمات، والصور، والتضامن العابر للحدود. والدروس من التجربة الكردية الحديثة من حيث تجربتا كردستان العراق وشمال وشرق سوريا تبرزان كمصدر إلهام وتحذير في آن. فالأولى أظهرت أن الحكم الذاتي لا يولد من رحم العنف فقط، بل من القدرة على بناء مؤسسات، والتمسك بالشرعية السياسية والدولية. والثانية كشفت كيف يمكن لقوة محلية أن تُعيد ترتيب أوراقها في ظل فراغ دولي، لتؤسس شكلاً من الإدارة الذاتية المستندة إلى تحالفات مع قوى محلية ودولية.

لكن تلك النماذج لم تكن بلا ثمن، إذ واجهتا معًا تحديات أمنية واقتصادية وسياسية عميقة، وهو ما يجب أن يُدرج في حسابات الحزب، حتى لا يُختزل نزع السلاح إلى شعار، بل يُفعّل كمسار شاق ومتدرج نحو الفعل السياسي الفعّال.

 صحيح انه لواقع صلب في التحديات التي لا تزال ماثلة، غير أن هذا التحول لن يكون سهلاً ولا سريعًا. فالتنفيذ العملي لنزع السلاح يتطلب رقابة دقيقة وشفافة، وتهيئة بيئة سياسية تضمن الحد الأدنى من الثقة بين الأطراف. كما أن الحزب سيحتاج إلى ضمانات سياسية حقيقية – لا مجرّد وعود – من الحكومة التركية، تتعلّق بحقوق الكرد، وبحماية أفراده من الملاحقات والمضايقات.

داخليًا، ستظهر حتمًا تيارات رافضة لهذا الخيار، خصوصًا من داخل الأطر الأكثر تشددًا، أو من أولئك الذين يعتبرون أن السلاح كان ولا يزال وسيلة ردع وحيدة في وجه المماطلة الرسمية. لكنّ اختبار النضج السياسي يكمن في القدرة على إدارة هذا التناقض، وتحويل الانقسام إلى نقاش داخلي لا إلى انشقاق دموي.

التكنولوجيا ساحة المعركة الجديدة

في زمن ما بعد الحداثة السياسية، ليست البنادق وحدها من تخوض المعارك. التكنولوجيا، بما تحمله من أدوات اتصال وتنظيم وحشد رقمي، باتت سلاحًا أكثر فاعلية في بعض الأحيان من الجبهات التقليدية. ويمكن لحزب العمال، إذا ما أحسن استخدام هذه الأدوات، أن يقدّم نفسه كقوة سياسية عابرة للحدود، تخاطب الداخل التركي والكردي، كما المجتمع الدولي، بلغة القانون والديمقراطية والتواصل الاجتماعي. فالممكن السياسي بعد المستحيل الثوري ربما يكونا للحظة الراهنة الأكثر تعقيدًا في تاريخ الحزب، لكنها قد تكون أيضًا الأكثر خصوبة. فالتحول من السلاح إلى الإصلاح ليس مجرد قرار تنظيمي، بل هو تحدٍ فكري وأخلاقي. وما بين الرغبة في الحفاظ على التضحيات، والحاجة إلى رؤية جديدة للمستقبل، يقف حزب العمال اليوم أمام مفترق طرق سيحدد ليس فقط مصيره، بل مصير جزء كبير من الجغرافيا الكردية.